مقالات

الحرب تفتك بالبيئة: تراجع الغطاء الأخضر وانهيار الأمن الغذائي في السودان

بقلم : د. طلعت دفع الله عبد الماجد

الحرب تفتك بالبيئة: تراجع الغطاء الأخضر وانهيار الأمن الغذائي في السودان

في ظل التحديات البيئية المتفاقمة التي يواجهها السودان نتيجة النزاع المسلح المستمر منذ أبريل 2023، برزت مبادرة علمية رائدة أطلقتها عمادة البيئة بجامعة النيلين بالتعاون مع جامعة البحر الأحمر، تمثلت في تنظيم ورشة عمل بعنوان “الآثار البيئية للحرب: المخاطر والحلول”، تحت شعار “نحو بيئة مستدامة لسودان ما بعد الحرب.

أُقيمت هذه الورشة في مدينة بورتسودان، وشهدت مشاركة واسعة من خبراء البيئة، وممثلي الجهات الحكومية، والمنظمات الدولية المعنية بالشأن البيئي، حيث ناقشوا التحديات البيئية الناجمة عن النزاع المسلح في السودان، وطرحوا رؤى علمية وعملية للحد من التلوث وتعزيز الوعي البيئي.

رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، نجحت هذه الورشة في تسليط الضوء على القضايا البيئية الملحة، وأكدت على أهمية التعاون بين المؤسسات الأكاديمية والحكومية والدولية لمعالجة الأضرار البيئية للحرب.

وقد ألهمتني هذه الفعالية لكتابة هذا المقال، الذي يهدف إلى تعزيز وتكملة ما طُرح في الورشة، من خلال تقديم نظرة عامة على تأثيرات الحرب على البيئة والغابات والزراعة في السودان، وتسليط الضوء على التحديات والفرص المتاحة لتحقيق بيئة مستدامة في مرحلة ما بعد النزاع.

أود أن أعرب عن تقديري العميق للبروفيسور الهادي آدم محمد إبراهيم، مدير جامعة النيلين، الذي وجه الدعوة لعدد كبير من المهتمين بقطاع البيئة والموارد الطبيعية في السودان، وكنت من بين من وصلتهم هذه الدعوة الكريمة. كما أشيد بالدكتورة جميلة الجميعابي، عميدة عمادة البيئة بالجامعة، التي بذلت جهودًا كبيرة في تحريك هذا الملف منذ فترة، وتهيئة الخبراء لهذا الحدث الكبير من خلال مشاركتها في عدد من التجمعات العلمية والمنصات الاجتماعية.

كذلك، لا يفوتني أن أشيد بالأستاذ موسى السفوري، المدير العام المكلف للهيئة القومية للغابات، الذي لم يدخر جهدًا منذ توليه المنصب، حيث قام بجولات تفقدية لمرافق الغابات في الولايات الآمنة، واجتمع بالمسؤولين، وطاف بمواقع الغابات التي تأثرت بالخراب والدمار، وعمل على تكوين لجان لحصر الخسائر وفتح بلاغات ضد المعتدين على موارد الغابات.

إن الحرب في السودان لم تقتصر تأثيراتها على الجانب الإنساني فقط، بل امتدت لتشمل البيئة والزراعة، مما يهدد مستقبل البلاد واستدامة مواردها الطبيعية. لذا، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب جهودًا متكاملة تشمل الجوانب الإنسانية والبيئية والتنموية. ليست هنالك احصائيات دقيقة وقياسات ومسوحات للإفادة بحجم الدمار بسبب صعوبة اجراء هذه المسوحات ف مناطق النزاع ووجود مخلفات الحرب.

تدهور الزراعة وانعدام الأمن الغذائي

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تعرض القطاع الزراعي في السودان لأضرار جسيمة، مما أدى إلى أزمة غذائية غير مسبوقة. وفقًا لتقرير صادر عن وزارة الزراعة والغابات السودانية، قُدرت خسائر القطاع الزراعي بأكثر من 10 مليارات دولار خلال عامي الحرب، نتيجة لتدمير ونهب الأصول الرأسمالية، بما في ذلك المعدات الزراعية ومحطات البحوث والبنية التحتية الزراعية.

أدى النزاع إلى انخفاض حاد في إنتاج الحبوب الرئيسية مثل الذرة الرفيعة والدخن والقمح بنسبة تقدر بنحو 46% خلال موسم 2023–2024 مقارنة بالعام السابق، نتيجة مباشرة للنزاع المسلح الذي أدى إلى نزوح المزارعين، تدمير البنية التحتية الزراعية، ونقص المدخلات الزراعية.

تسبب النزاع أيضًا في تعطيل سلاسل التوريد، حيث نُهبت مستودعات المستلزمات الزراعية مثل الأسمدة والبذور والمبيدات الحشرية، مما جعل من الصعب على المزارعين الحصول على المدخلات اللازمة للزراعة. كما أن النظام المالي الزراعي تأثر بشدة، حيث أصبح جمع الأموال لشراء المدخلات الزراعية شبه مستحيل بسبب الشلل الذي أصاب الأسواق، خاصة في الخرطوم.

أدى هذا الانخفاض الحاد في الإنتاج الزراعي إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي، حيث يواجه أكثر من 25.6 مليون شخص في السودان مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، مع وصول 755 ألف شخص إلى أوضاع كارثية، وشمل خطر المجاعة 14 منطقة.

تأثرت مشاريع زراعية رئيسية مثل مشروع الجزيرة بشكل كبير، حيث خرجت 55% من مساحة المشروع عن الإنتاج في الموسم السابق ، مما يهدد الأمن الغذائي في السودان ويعرض المشروع لخطر الانهيار.

تدمير الغابات وفقدان التنوع الاحيائي: كارثة بيئية متفاقمة

أدى النزاع المسلح الذي اندلع في السودان في أبريل 2023 إلى تدمير واسع النطاق للغابات والمواطن الطبيعية، مما تسبب في فقدان التنوع البيولوجي بشكل غير مسبوق.

تدهور الغابات والمراعي والحياة البرية في السودان 

منذ اندلاع النزاع المسلح في السودان في أبريل 2023، تعرضت الغابات والمراعي والحياة البرية لأضرار جسيمة، مما أدى إلى تفاقم التدهور البيئي في البلاد.

تدمير الغابات

أدى انعدام مصادر الطاقة التقليدية إلى لجوء السكان إلى قطع الأشجار لاستخدامها كوقود بديل، مما تسبب في إزالة مساحات شاسعة من الغابات في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأزرق وسنار والجزيرة والخرطوم. وقد ساهم النزاع في تدمير المواطن الطبيعية، مما أدى إلى فقدان التنوع البيولوجي، حيث انخفضت أعداد بعض الأنواع الحيوانية بنسبة تصل إلى 60% في المناطق المتأثرة.

تدهور المراعي وزيادة الضغط على الموارد الطبيعية

أدى النزاع إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان إلى مناطق جديدة، مما زاد من الضغط على المراعي والموارد الطبيعية. وقد تسبب ذلك في تدهور المراعي نتيجة للرعي الجائر والاستخدام غير المستدام للأراضي، مما أثر سلبًا على الإنتاج الحيواني وزاد من خطر التصحر.

التداعيات البيئية والصحية

أدى تدمير الغابات والمراعي إلى زيادة انبعاثات الكربون، مما يفاقم من ظاهرة التغير المناخي. كما ساهم النزاع في تلوث البيئة نتيجة لتراكم النفايات والجثث في المناطق الحضرية، مما أدى إلى تفشي الأمراض وتدهور جودة المياه.

غياب الرقابة البيئية: تسبب انهيار مؤسسات الدولة في غياب الرقابة على الأنشطة البيئية، مما فتح المجال أمام الاستغلال العشوائي للغابات.

فقدان التنوع الاحيائي:

تسببت الحرب في تدمير المواطن الطبيعية للحياة البرية، مما أدى إلى انخفاض أعداد العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية. كما أدى تدمير الغابات والمراعي إلى فقدان المواطن الطبيعية للعديد من الأنواع، مما يهدد التنوع البيولوجي في السودان.

انخفاض أعداد الأنواع الحيوانية: تشير تقارير إلى أن أعداد بعض الأنواع الحيوانية انخفضت بنسبة تصل إلى 60% في المناطق المتأثرة، مما يهدد بانقراضها.

تدمير المؤسسات البحثية

تسبب النزاع في تدمير مؤسسات بحثية مهمة، مثل بنك البذور بهيئة البحوث الزراعية الذي كان يحوي عينات نادرة لأصناف المحاصيل الزراعية ومتحف السودان للتاريخ الطبيعي، الذي يحتوي على عينات محفوظة منذ القرن التاسع عشر، مما يمثل خسارة كبيرة للمعرفة البيئية والبحث العلمي.

التداعيات البيئية :

زيادة خطر الكوارث الطبيعية: تؤدي إزالة الغابات إلى زيادة خطر التعرض للكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والجفاف، وتؤدي إلى اضطراب دورة المياه.

تآكل التربة: تساهم إزالة الغابات في تآكل التربة والتأثير في خصوبتها، مما يؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي.

تفاقم التغيرات المناخية: تعمل الغابات كمصارف للكربون، وإزالتها يفاقم من تأثير التغيرات المناخية، مما يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري

التلوث البيئي وتدهور الصحة العامة : أزمة متفاقم في السودان

شهدت البلاد تدهورًا بيئيًا وصحيًا غير مسبوق، حيث تسببت العمليات العسكرية في تدمير البنية التحتية الحيوية، مما أدى إلى تفشي الأمراض وتدهور جودة المياه والهواء، وارتفاع معدلات الوفيات، خاصة بين الأطفال والنساء.

تراكم النفايات والجثث وتلوث المياه

أدى النزاع إلى تعطيل خدمات جمع النفايات والتخلص منها، مما تسبب في تراكم النفايات في الشوارع والمناطق السكنية، خاصة في المدن الكبرى مثل الخرطوم. كما أن تكدس الجثث في المناطق الحضرية دون دفن مناسب ساهم في تلوث المياه وانتشار الروائح الكريهة، مما زاد من مخاطر تفشي الأمراض.

تدمير البنية التحتية للصرف الصحي

تسببت العمليات العسكرية في تدمير محطات معالجة مياه الصرف الصحي وشبكات الصرف، مما أدى إلى تسرب المياه الملوثة إلى مصادر المياه النظيفة، وزيادة مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد.

تفشي الأمراض وتدهور الخدمات الصحية

أدى النزاع إلى تعطيل النظام الصحي في البلاد، حيث تم تدمير العديد من المستشفيات والمراكز الصحية، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، مما جعل من الصعب تقديم الرعاية الصحية اللازمة للسكان. كما أن النزوح الجماعي للسكان أدى إلى اكتظاظ المخيمات ونقص الخدمات الأساسية، مما ساهم في تفشي الأمراض.

تلوث الهواء والتربة

أدت العمليات العسكرية إلى إطلاق كميات كبيرة من الغازات السامة والمواد الكيميائية في الهواء، مما تسبب في تلوث الهواء وزيادة معدلات الأمراض التنفسية. كما أن تسرب المواد الكيميائية من المصانع والمنشآت الصناعية أدى إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، مما أثر سلبًا على الزراعة والصحة العامة

التفاعل بين الجفاف والحرب:حلقة مفرغة من التدهور البيئي والإنساني

يُعد السودان من أكثر الدول تأثرًا بالتغيرات المناخية، حيث يعاني من تقلبات حادة في معدلات الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، مما يؤدي إلى فترات جفاف طويلة وأخرى من الفيضانات المدمرة. هذه التغيرات أثرت بشكل مباشر على الزراعة والموارد المائية، وزادت من هشاشة المجتمعات الريفية التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة المطرية.

مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 ، تفاقمت الأوضاع البيئية والزراعية نتيجة لتدمير البنية التحتية الزراعية، ونزوح المزارعين، وتوقف الأنشطة الزراعية، ونقص في المدخلات الزراعية مثل البذور والأسمدة، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة كبيرة.

العلاقة بين الجفاف والحرب في السودان ليست علاقة سببية بسيطة، بل هي علاقة تداخلية حيث يعزز كل منهما الآخر. فالجفاف يزيد من التوترات بين المجتمعات المختلفة بسبب التنافس على الموارد، مما قد يسهم في اندلاع النزاعات. وفي المقابل، تعيق الحرب جهود التكيف مع التغير المناخي، مثل بناء السدود أو تحسين تقنيات الزراعة، مما يجعل المجتمعات أكثر عرضة لتأثيرات الجفاف.

إن التداخل بين الجفاف والحرب في السودان خلق حلقة مفرغة من التدهور البيئي والإنساني. فكلاهما يغذي الآخر، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات وتزايد معاناة السكان.

توصيات عاجلة لمعالجة الأثر البيئي والزراعي للحرب في السودان

في ظل الكارثة البيئية والإنسانية المتفاقمة الناتجة عن النزاع المسلح في السودان، تبرز الحاجة إلى تدخلات عاجلة ومنسقة على المستويين الوطني والدولي.

وقف إطلاق النار: ضرورة ملحّة تتطلب إرادة سياسية قوية

لتمكين وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة، خاصة تلك التي تعاني من المجاعة ونقص الخدمات الأساسية.

لوصول فرق الإغاثة وتسهيل حركة النازحين، مع ضمان حماية العاملين في المجال الإنساني.

إزالة العقبات الإدارية التي تعيق عمليات الإغاثة، مثل التصاريح والتفتيش المفرط، لضمان سرعة وكفاءة توزيع المساعدات.

الامتثال للقانون الدولي الإنساني: ضمان حماية المدنيين والمرافق الحيوية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، من الهجمات والدمار.

دعم عاجل للقطاع الزراعي

مثل البذور والأسمدة والمعدات للمزارعين، خاصة في المناطق التي كانت تُعتبر سلة غذاء البلاد مثل مشروع الجزيرة.

إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية بما في ذلك أنظمة الري والمخازن، لضمان استئناف الإنتاج الزراعي في أقرب وقت ممكن.

إعادة تأهيل الغابات وحماية التنوع البيولوجي

تنفيذ برامج تشجير واسعة النطاق لإعادة تأهيل الغابات المتضررة، خاصة في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأزرق وسنار والجزيرة والخرطوم.

توفير بدائل للطاقة للحد من الاعتماد على الفحم والحطب.

إنشاء مرصد وطني لتقييم الأضرار البيئية

تأسيس مرصد وطني مستقل لرصد وتقييم الأضرار البيئية الناتجة عن النزاع، بالتعاون مع منظمات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP).

إعداد تقارير دورية توثق الأثر البيئي للنزاع وتقدم توصيات للسياسات البيئية المستقبلية.

تعزيز التعاون الدولي والدعم المالي

دعوة المجتمع الدولي لتقديم الدعم المالي والفني لتنفيذ هذه التوصيات، مع التركيز على بناء القدرات المحلية وتعزيز الاستدامة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى