مقالات

نافخو الكير …..

زاوية شوف أخرى : ناجي فرح يوسف

 

نافخو الكير …..

قادتني المطالب الحياتية و أنا أبحث عن ضالتي، بالمرور بما يسمى بالسوق الفوق في الدامر، وفيه مكان تجهيز أو ما يسمى (تطريق) أو (سن) السكاكين وادوات الحفر والقطع، (الفؤوس والفرارير والطواري) بالطرق البدائية.

جلست لأحتسي فنجان قهوة لتهدئة اعصابي، و اتخذ من زمن ارتشافه فرصة للإستجمام من الحوامة، لكن الذي أطال بقائي أكثر مما يلزم و الدخول في كباية شاي اضافية، انه كان امامي حرفيا يقوم بصناعة المعاول، وكان يجلس على (بنبر) وامامه حفرة مملوءة بالفحم وقد وضع عليها (الياي) وهو الحديدة المراد تطويعها، و خلفها يجلس غلام يمسك بالكير ، والكير هو على شاكلة القربة المصنوعة من الجلد، تسحب الى الوراء لتمتليء بالهواء ثم تفرغ في ذلك الفحم حتى يتطاير الشرر.

المعلم لا يجلس مقابل مكان خروج الهواء من الكير حتى لا يتأذي من الشرر المتطائر، انما يجلس بزاوية تسعين درجة مع تقاطع إتجاه الهواء القادم من الكير.

وعندما يتمكن الاحمرار من قطعة الحديد تلك يمسكها المعلم باداة حديدية ذات مقبض خشبي، ويأمر الصبي بأن يمسك بالمطرقة ليذيق الياي الموضوع على السندان اصنافا من الضرب حسب ما يرى المعلم مكانا وشدة.

بالرغم من الجهد الكبير الذي يبذله هذا الشيل متفوقا فيه على معلمه إلا أنه يتقاضى أجرا اقل مما يتقاضاه المعلم، و كل عمله إن يبذل ذلك الجهد بضرب السندان بالمطرقة والمعلم يحرك الياي تحت المطرقة.

لا يسأل الصبي عن جودة المنتج، ولا يحاسب على نجاح المهمة باجر اضافي انما يكتفي فقط برثاثة مظهره، وبين ياي وياي يرسل لجلب الشاي والجبنة والفطور و جلب معينات العمل والمعلم في مكانه.

وقد لا يكون لديه ادنى علم بماذا يريد الزبون تحديدا، فالعلم كله عند معلمه، ولا يفاصل في السعر ولا يستلم المال، وكل ما يناله هو اجر يومه الثابت زاد العمل أو قل.

و قد يترك العمل إما مطرودا اذا لم يفلح في نفخ الكير أو يتركه بنفسه اذا ما شق عليه العمل، فيذهب الى مكان آخر نافخا للكير ايضا وليس معلما، ويقدح في معلمه السابق لزوم اكل العيش، و في كل مكان يذهب إليه هناك آلاف الضحايا من الشرر المتطاير نتيجة نفخه في الكير.

لم تكن قصة الكير تلك جديدة علي، لكن عندما جلست لارتشف فنجان قهوتي كان هناك مقطعا صوتيا للجبوري في احد قروبات الواتس، وقد انتفخت اوداج الفاضل فيه وهو بنفخ في كير الدعامه، و بعده مقطع فيديو لبقال وغيرهم.

فانتبهت لأن الميديا صارت اشبه بالامكنة التي امامي كمية من (القرب والمطارق والسنادين والبنابر والمعلمين والصبية) ونادرا ما ترى زبونا يعرض نفسه لهذه المخاطر، فقط يسلمون طلباتهم ويستلمونها لاحقا، أو يشترون من المعروض المعد مسبقا.

وحتى معظم أحزابنا إن لم يكن كلها، للاسف هم نافخو كير لمحاور اجنبية، وحتى داخل اروقة الحزب تجد العديد من (الحفر والفحم والقرب و المطارق والسنادين) وما اكثر الصبية والمعلمين الذين ينفذون ما يطلب منهم الزبائن، ويتأذى الشعب بالروائح النتنة والشرر المتطاير الذي يصل مراحل الحريق كما يحدث الآن في السودان.

يقين برس

صحيفة اللكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى