السودان ومياه الحياة: استراتيجية سيادية لحصاد المطر وبناء وطن منتج وآمن
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

السودان ومياه الحياة: استراتيجية سيادية لحصاد المطر وبناء وطن منتج وآمن
في كل عام، يهدر السودان مليارات الأمتار المكعبة من مياه الأمطار، بينما تعاني القرى من العطش، وتجف المزارع، وتموت الماشية على أبواب الموارد الجافة. هذه المفارقة الصارخة، بين الوفرة الطبيعية وسوء الإدارة، تدفعنا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر في العلاقة بين المطر والتنمية، بين الماء والسيادة، وبين المورد والإرادة.
لقد آن الأوان لأن يتحول حصاد مياه الأمطار من ملف تقني هامشي إلى مشروع وطني سيادي واستراتيجي يعيد رسم مستقبل الاقتصاد والبيئة والغذاء في السودان. ملف المياه يتطلب جملة من التوصيات المحكمة والقابلة للتنفيذ، تمثل خارطة طريق علمية ووطنية، ندمجها هنا ضمن التحليل والتخطيط العملي:
1. من أجل وطن يستثمر في كل قطرة مطر
إعداد خطة وطنية شاملة لحصاد مياه الأمطار والسيول، تربط بين الشرب، والري التكميلي، وتغذية الخزانات الجوفية.
توجيه السياسات والخطط الوطنية وفق نهج تشاركي يجمع الوزارات، والمجالس القومية، والولايات، والمجتمع المدني.
2. بناء بنية تحتية ذكية ومستدامة للحصاد
إنشاء خزانات سطحية وسدود ترابية في المناطق ذات الهطول الموسمي.
تصميم مجاري تصريف متكاملة في المدن والريف، بأسلوب مستدام على غرار النماذج الألمانية والتركية.
فرض أنظمة حصاد مياه منزلية ومؤسسية، عبر التشريعات العمرانية، تُلزم الأبنية الجديدة بتركيب تقنيات التجميع والتخزين.
3. تمكين الكفاءات السودانية والتدريب المتخصص
إطلاق برامج تدريب وطنية مستمرة في الجامعات ومراكز البحث، تركز على تقنيات الحصاد، وإدارة الموارد المائية، ومراقبة جودة المياه.
4. الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة
التعاون مع الجمعية الأمريكية لأنظمة جمع مياه الأمطار (ARCSA) لتطوير المعايير الفنية.
تبني نماذج مثل سنغافورة والهند، حيث تحولت الأمطار الموسمية إلى مصادر دائمة تخدم الشرب والصناعة.
5. دعم البحث العلمي التطبيقي
تمويل أبحاث موجهة في الجامعات السودانية لتطوير حلول محلية للحصاد باستخدام المواد المتوفرة والبيئات المختلفة.
إطلاق منصة إلكترونية وطنية لرصد الأمطار، وتبادل الدراسات، وربط الباحثين بالمؤسسات التنفيذية.
6. تشجيع الشراكات الاستثمارية الذكية
تقديم حوافز ضريبية وتشريعية للاستثمار في مشاريع الحصاد المائي.
ربط مشاريع الحصاد ببرامج الأمن الغذائي والطاقة النظيفة لتكوين منظومة اقتصادية متكاملة.
7. رفع الوعي المجتمعي وترسيخ ثقافة الماء
تنظيم حملات توعوية وطنية سنوية بعنوان (كل قطرة تحيي) لنشر الوعي بقيمة المطر كمورد حياتي.
إدماج مفاهيم الحصاد المائي في المناهج الدراسية منذ المرحلة الابتدائية، لتنشئة جيل يعرف كيف يحترم الماء ويستثمره.
الماء مشروع سيادي وليس بيئي فقط
السودان لا تنقصه النعم، بل تفتقر إلى الإدارة الواعية لتلك النعم. لقد أصبح من الضروري التعامل مع الماء لا كعنصر طبيعي فقط، بل كمشروع سيادي يعكس أمن الوطن، وصحة المواطن، وقيمة الحياة. إن هذه التوصيات ليست شعارات، بل خطوات عملية قابلة للتطبيق الفوري، إذا توفرت الإرادة، وتضافرت الجهود، وتم احترام العلم والمهنية.
فلنصنع من كل قطرة مطر مشروعًا للسيادة والإنتاج… لا للهدر والفقد.
ولنجعل من السودان رائدًا في حصاد الحياة، لا فقط متلقيًا لمآسي المناخ.
إن بناء مستقبل السودان يبدأ من الماء، والماء يبدأ من المطر. إن تحويل كل قطرة من السماء إلى مورد للأرض خيارًا سياديًا وجوديًا. إذا تمكّنا من إدارة مياه الأمطار بذكاء، سنبني وطنًا أكثر إنتاجًا وأمناً، نعزز فيه الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ونؤمن موارد الشرب للإنسان والحيوان، ونفتح آفاقًا للطاقة النظيفة والصناعات المرتبطة بالمياه. هذه ليست مجرد تقنية للحصاد، بل هي فلسفة وطنية تجعل من الماء أساسًا للكرامة والسيادة والتنمية المتوازنة. فالسودان الذي يستثمر في مياهه هو السودان الذي يمتلك مستقبله.