
الحجر ينطق… ولكن نحن لا نسمع
حين يصمت الناس، تنطق الأشياء. وحين تغيب البصيرة، يصبح الحجر أبلغ من الخطابات. لقد نطق الحجر في السودان، ولكننا لم نسمع. نطق حين جفّت الأرض، وتحوّلت القرى إلى أطلال، وحين غدت الهجرة حلمًا لا خيارًا، واللجوء عنوانًا للنجاة. ومع ذلك، ما زلنا نعيش في دائرة التبرير بدل التفكير، وفي زمنٍ يسبقنا بخطواتٍ أسرع من وعينا به.
العالم من حولنا تغيّر. في المطارات الدولية التي يعبرها السودانيون يوميًا، وفي المدن الرقمية الذكية التي تنبض بالعمل، وفي القطارات التي تشق الزمن بدقةٍ وسرعةٍ وأمان. يرى اللاجئ السوداني كل هذا في الخارج، فيدرك أن ما نفتقده ليس الثروة، بل المنهج والعقل المؤسسي والقدرة على السماع. فالمشهد الذي نراه في الدول المستقرة ليس إعجازًا، بل ثمرة استراتيجية استماع وتنفيذ وضعت الإنسان في مركز الفعل لا هامشه.
إن الاستراتيجية الغائبة عن المواطن السوداني ليست في النصوص ولا في الأوراق، بل في طريقة التفكير، في الفجوة بين التخطيط والتنفيذ، وفي غياب الوعي بأن التنمية ليست مشروع وزارة، بل ثقافة وطن. الوطن لا يُبنى بالموارد وحدها، بل بالإنصات العميق لصوت الواقع؛ للأرض التي تتألم، وللشباب الذين يغادرون، وللعمال الذين يصنعون الصبر اليومي.
إن بناء وطنٍ جديد يبدأ من إعادة تشكيل الوعي الاستراتيجي:
أن نتعلم من العالم، لا أن نحسده؛
أن نسمع أكثر مما نتكلم؛
أن نخطط بما يتفق مع حاجات المواطن، لا بما يزين التقارير.
وهنا تتجلى التوصيات العملية المتكاملة كخطة وعي قبل أن تكون خطة عمل:
إطلاق استراتيجية وطنية للإصغاء والتعلم المؤسسي، تتيح للدولة أن تلتقط إشارات التغيير وتستجيب بذكاء؛
استعادة الكفاءات السودانية في الخارج، فهم جسر التجربة العالمية إلى الداخل؛
تحويل الاستراتيجية إلى ممارسة، عبر دليل تنفيذ واضح يربط بين المسؤولية والمساءلة؛
ابتكار مدن ذكية تجريبية تعتمد الطاقة النظيفة وجودة الحياة لتكون رمزًا للأمل؛
إصلاح بيئة العمل والإنتاج بربط الحوافز بالأداء؛
إطلاق “مؤشر جودة الحياة السوداني” لقياس تطور الخدمات لا حجم التصريحات؛
تعزيز ثقافة الحوكمة والاستدامة بالتدريب والتأهيل؛
تفعيل شراكات المجتمع والقطاع الخاص في إعادة الإعمار؛
غرس ثقافة “الإنصات قبل القرار” في كل مشروع وطني.
أما النجاح الحقيقي، فهو أن نُعيد تعريفه في وعينا الجمعي: ليس النمو في الأرقام، بل الازدهار في الإنسان. إن التنمية لا تُدار من المكاتب بل من نبض الواقع، ومن فهم المواطن وطموحه قبل أن تُكتب السياسات.
الحجر نطق، ولكننا لم نسمع… وحين نبدأ بالإنصات، سنكتشف أن الوطن كان ينتظر فقط من يسمعه ليبدأ من جديد. إن الاستراتيجية المشهد الغائب عن المواطن السوداني، هي التي تظهر له ما يمكن أن يكون واقعًا مستقبليًا، وتجعل من التجارب الفردية دروسًا تُستفاد منها لبناء نهج وطني متكامل.
فكما نهضت العديد من الدول بريادة الأعمال، مثل الهند وبنك قرامين، من خلال الربط بين التعليم، السوق، والاستثمار، فإن السودان يمتلك الموارد والقدرات، ولكنه يحتاج إلى إعادة تصميم الاستراتيجية بما يراعي المواطن ويربطه بالفرص. الفشل ليس في التجربة نفسها، بل في غياب التطبيق المتكامل للرؤية، بينما النجاح يبدأ من العقل المؤسسي الذي يسمع، والمواطن الذي يشارك، والخطط التي تُترجم إلى أفعال ملموسة.
دعونا نستيقظ لنسمع الحجر، لنقرأ الأرض، لنراقب العالم، ولنجعل الاستراتيجية ليست نصًا، بل حياة. لنغرس ثقافة العمل المتكامل، لنربط العلم بالسوق، والفكرة بالموارد، والرؤية بالنتائج. حينها فقط، لن نسمع صمت الحجر، بل سنرى ثمار إرادتنا تنمو، وسينمو السودان معنا، قويًا ومستدامًا، حاضنًا لشعبه، ومستعدًا لمستقبلٍ يليق به.




