
رحلة لا تعرف الانطفاء
لم يكن في البلاد ما يشبه الحياة كما عرفها الناس من قبل، فقد صارت الأيام ثقيلة تمشي على أطرافها، والأسواق التي كانت تحتضن صخب النهار خفَت صوتها حتى صارت مثل صدفة فارغة على شاطئ منسي. الطرق تراجعت، الخدمات انهارت، والوجوه التي كانت مليئة بالطمأنينة بدأت تتآكل من شدة القلق، كأن البلاد فقدت جزءًا من روحها. وفي وسط هذا العتم، في تلودي عروس الجبال، وُلد سعيد، أو صَبِخ كما كانوا يسمونه، طفلًا صغيرًا بعينين تلمعان مثل انعكاس الشمس على صخور الجبل. تلودي لم تكن مجرد مدينة، بل كانت حضنًا كبيرًا، جبالها تشبه آباءً يقفون على حدود المكان يحرسون أهله، وتربتها تحمل رائحة المطر الأولى، والناس فيها يمشون بخفة تُشبه أقدام من يعرفون قَدر أرضهم.
نشأ سعيد في عالم مختلط بين حلمٍ صغير وواقع يزداد صعوبة. يرى أمه تكتم زفراتها كي لا تفضح خوفها، يسمع الرجال يتحدثون في المساء عن حياة تتراجع بلا توقف، وعن وطن يبدو كأنه ينزف من أطرافه. ومع ذلك، كان داخله بصيص نور غامض، حلم بأن يصبح طبيبًا، لا لأنه أراد لقبًا، بل لأنه أراد أن يكون شيئًا لا يستطيع الفقر أن يهدمه. كبر وهو يحمل هذا الحلم كالجمرة في قلبه.
وعندما غادر تلودي إلى الخرطوم، كان يشعر أنه يقتلع شجرة من جذورها. الطريق الطويل، الغبار، السيارات المتهالكة، نظرات الناس الحائرة… كل ذلك جعل الرحلة تبدو كأنها فيلم بطيء، لكنه يعرف أن فيه مشهدًا ينتظره في النهاية. في الخرطوم درس الطب، وتخرج، وتزوج من فتاة من منطقته، وعاد ليعمل في المركز الصحي معتقدًا أن حياته بدأت تأخذ شكلًا يشبه الحلم الذي تربى عليه.
لكن الحياة لها رأي آخر دائمًا. الراتب صار لا يكفي شيئًا، حتى حين كان يفرشه على الأرض ويقسمه بين البقالة، والجزارة، والاحتياجات اليومية، كان يتبخر قبل أن يصل لنصف الشهر. الخدمات تنهار، الأمان يتآكل، والمدينة التي حلم بها صارت كمن يختنق تحت غبار الزمن. كانت الأيام تضيق عليه كأنها جدار يقترب ببطء. لم يعد يستطيع البقاء، ليس لأنه لا يريد، بل لأن القدرة على الاستمرار صارت تتآكل كل يوم.
وهكذا خرج، ترك وطنه كما يترك المرء قلبه خلفه، واتجه نحو المجهول. وصل إلى لندن بعد رحلة شاقة، مدينة باردة تقف شامخة تحت المطر، لا تعبأ بمن يسقط أو ينهض. عمل في كل شيء: حمل الصناديق، غسل الصحون، نظف الشقق، سهر الليالي في أعمال مؤقتة، لكنه لم يسمح للنار داخله أن تنطفئ. كان يشعر أن تلودي تمشي معه، وأن جبالها تسنده بصمت.
ومع السنوات أكمل تخصصه، وفتح لنفسه بابًا جديدًا، وجاءت أسرته، وصار لديه منزل دافئ، وحياة مستقرة، وراتبًا يحفظ كرامته، ثم حمل الجواز الإنجليزي بين يديه… الحلم الذي يراود الكثير من السودانيين الذين أنهكتهم الأزمات وتكسرت أحلامهم تحت ضيق الحياة. ذلك الجواز لم يكن مجرد وثيقة، كان خلاصًا صغيرًا، نافذة واسعة على حياة لا تطارده فيها الحاجة.
ورغم تحسن كل شيء، لم ينسَ لحظة واحدة، أن السودانيين في لندن كانوا يقولون ساخرين: صرتنا مقطوعة في لندن ، كناية عن الذين جاءوا بلا أهل ولا سند، لكنه كان يعرف أن صرته الحقيقية تمتد من لندن حتى تلودي، وأن جذوره لا يمكن أن تُنتزع مهما ابتعد.
وفي لحظة هادئة، حين كانت الأمطار تنقر زجاج نافذة غرفته كما لو أنها تبحث عنه، أدرك أن رحلته كلها لم تكن هروبًا… بل كانت بحثًا عن مساحة يستطيع من خلالها أن يعود لبلده وهو أقوى، أوسع فكرًا، وأقدر على أن يقدم شيئًا. فهم في ذلك الليل البارد أن الوطن لا يحتاج فقط لمن يبقى، بل لمن يعود محملًا برؤية جديدة. رؤية لوطن متوازن، عادل، لا يدفع أبناءه للرحيل بل يدفعهم للحياة.
وهكذا أصبحت رحلة صَبِخ – سعيد – انعكاسًا لمعنى عميق: أن الإنسان يولد صغيرًا، لكنه قد يتحول إلى نور إذا رفض أن ينطفئ. وأن الجبال ليست مكانًا فقط، بل ذاكرة، وروح، ونبض، تمشي معك أينما ذهبت. كل مدينة سكنها حملت جزءًا من تلودي، وكل خطوة جديدة فيها صدى لأقدامٍ صغيرة ركضت يومًا على تراب الجبل.
ليس الطريق هو الذي يصنع الإنسان… بل الإنسان هو الذي يعطي الطريق معنى. والساقط ليس من يتعثر، بل من يتوقف. وكل حلم صادق، مهما بدا صغيرًا في بدايته، قادر على أن يشق نفقًا حتى يصل إلى ضوء لا ينطفئ. كانت رحلته دليلًا على أن الذين يصنعون الفجر ليسوا الذين يعيشون في الضوء… بل الذين يسيرون في العتمة دون أن يسمحوا لقلوبهم بالظلام.
وهكذا انتهت رحلته كما بدأت… نورًا صغيرًا يشتعل في قلب الجبال، ويكبر حتى يصبح ضوءًا يهتدي به الآخرون.




