الخرطوم بين التحديات الحضرية وفرص إعادة التخطيط: من الأمن إلى التنمية المتوازنة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

الخرطوم بين التحديات الحضرية وفرص إعادة التخطيط: من الأمن إلى التنمية المتوازنة
في عام 2017م، كتبت مقالًا عن العاصمة الإدارية، وطرحت فيه مدينة بورتسودان كمثال على إمكانية أن تكون عاصمة إدارية بديلة. يومها لم يكن الأمر أكثر من قراءة تخطيطية ومحاولة لفتح النقاش حول مستقبل العاصمة في ظل التمدد العمراني والعشوائي الذي تعيشه الخرطوم.
مرت السنوات، ثم جاءت الحرب في 2023م، ومع انتقال مؤسسات الدولة إلى بورتسودان، اتصل بي عدد من الأصدقاء قائلين: “تحققت نبوءتك!” وكان ردي ببساطة: “كنت أضرب مثالًا ببورتسودان، لكن السودان مليء بالمدن الجميلة والساحرة؛ الأبيض، وكسلا، وجبل مرة، ودنقلا وغيرها.”
صحيح أنني كنت قد وضعت تصورًا عمرانيًا لبورتسودان يشمل موقع الحي الدبلوماسي والسفارات والخدمات، لما تملكه من امتدادات طبيعية تتيح تخطيطًا مرنًا، وتربطها موانئ بحرية وبنية تحتية واعدة، مما يجعلها مؤهلة للمساهمة في نموذج عمراني جديد يعكس توزيعًا عادلًا للسلطة والخدمات، إلا أن الطرح لم يكن لذاتها، بل لأنها تمثل نموذجًا قابلاً للتطوير في ظل صعوبة إعادة تخطيط العاصمة الحالية بشكلها القائم.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية المدن الرقمية والحكومات الإلكترونية، التي خفّفت من أهمية الموقع الجغرافي المركزي للعواصم الإدارية، وفتحت المجال أمام مدن ساحلية أو حدودية لتؤدي أدوارًا قيادية في الإدارة والخدمات. لم تعد العاصمة بحاجة لأن تتوسط البلاد جغرافيًا، بل الأهم أن تتصل ببنية تحتية ذكية وكفاءة تشغيلية عالية.
ومع ذلك، تبقى للخرطوم خصوصية لايمكن تجاهلها ، فهي تقع في موقع استراتيجي بين مقرن النيلين وسط السودان وحاضرة في قلب المعادلة الوطنية، لا بوصفها حكرًا على الإدارة، ولكن باعتبارها مركزًا رمزيًا وتاريخيًا لا يمكن تجاوزه بالكامل. لذا فإن المسألة ليست في استبدال مدينة بأخرى، بل في إعادة توزيع الأدوار وتوسيع قاعدة الوظائف العمرانية عبر البلاد.
وهنا تبرز نقطة محورية: لم يعد من المنطقي أن تتركّز كل مؤسسات الدولة والخدمات والفرص في مدينة واحدة. من العدالة الاجتماعية، بل ومن مصلحة الدولة التنموية، أن يتم توزيع الأدوار والوظائف على مختلف المدن: عاصمة سياسية أو إدارية، مدينة صناعية متكاملة، مدينة تجارية وعاصمة سياحية، ومدن جامعية متخصصة. وهذا يخلق توازنًا عمرانيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ويقلل الضغط على العاصمة أو أي مدينة أخرى.
كما أن من الضروري في هذا السياق أن يكون المطار الرئيسي خارج المدينة الإدارية، وفقًا للنظم التخطيطية الحديثة التي تراعي الأمن، والكفاءة التشغيلية، والربط الإقليمي. فموقع المطار عنصر حيوي في تصميم العاصمة الحديثة، ويجب أن يكون ضمن رؤية عمرانية كبرى لا تعتمد على العشوائية أو الظرف الطارئ.
1. أولوية الأولويات: الأمن
الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها هي تثبيت الأمن. دون بيئة آمنة، لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار أو عودة مواطنين. هذا يتطلب انتشارًا أمنيًا مدروسًا، تطهيرًا كاملاً لبؤر الفوضى، وفرض سيطرة قانونية صارمة تمنع ظهور أي نشاط مسلح أو فوضوي من جديد.
2. ضبط الوجود الأجنبي وتنظيمه
من أبرز عوامل زعزعة الاستقرار هو الوجود الأجنبي غير المنضبط، لا بد من وضع سياسة واضحة للوجود الأجنبي، تبدأ بحصر دقيق وتصنيف قانوني، وتخضع لمراجعة دورية ومتابعة أمنية صارمة.
ينبغي أن تُمنح تصاريح الإقامة والعمل فقط بعد دراسة الحالة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية لكل فرد، مع ضرورة فرض رسوم إقامة عادلة تُسهم في تمويل الخدمات العامة والبنية التحتية.
كما يجب تحديد طبيعة الأعمال المسموح بها للعمالة الوافدة، بحيث تقتصر على أعمال إنتاجية أو خدمية مشروعة، وضمن إطار مؤسسي خاضع لإشراف ورقابة وطنية. تُمنع العمالة الأجنبية من التسلل العشوائي إلى السوق، أو مزاحمة المواطنين في قطاعات غير مصرح بها، ويُمنع تمامًا ممارسة التسوّل أو التواجد العشوائي في الطرقات والأسواق.
هذا التنظيم لا يعني الإقصاء، بل يعني احترام السيادة الوطنية، وضمان مساهمة من يُمنح الإقامة في الاقتصاد بصورة منظمة ومنتجة.
3. الخرطوم لا تُرمّم، بل تُعاد تخطيطها
الواقع العمراني في الخرطوم بلغ مرحلة من التدهور والتشوّه لا يمكن معها التفكير في “ترميم” أو “صيانة”. الخرطوم بحاجة إلى إعادة تخطيط جذري، يُراعى فيه الاتساع السكاني، ومواقع الخدمات، والنقل، والمناطق الصناعية، مع تقنين السكن العشوائي ومنع تمدده.
ومن الجوانب التي لا تقل أهمية عن البنية التحتية: تنظيم الأنشطة التجارية والخدمية، وعلى رأسها المقاهي. فالمقاهي في السودان كانت تؤدي دورًا مجتمعيًا واقتصاديًا بالغ الأهمية، حيث كانت مركزًا يوميًا لتجمّع الحرفيين والعمال في انتظار فرص العمل، إلى جانب كونها فضاءً اجتماعيًا مفتوحًا.
لكن سياسات الإغلاق العشوائي التي طالت كثيرًا من هذه المقاهي، دون بدائل منظمة، فتحت المجال لانتشار واسع لستات الشاي في الفضاء العام، مما أدى إلى ظهور ظواهر اجتماعية سالبة، من بينها نشاطات غير قانونية مثل تعاطي “الآيس”. هذا التحول لم يكن طبيعيًا، بل نتيجة لغياب التنظيم والرقابة على مستوى المحليات.
وهنا تأتي مسؤولية المحليات في تنظيم النشاط التجاري والخدمي حسب احتياجات كل منطقة، لا وفق تقديرات فردية أو ضغوط استثمارية. فكما تُنظّم بعض الأنشطة كالصيدليات بناءً على الحاجة، يجب أن تُخضع بقية الأنشطة لنفس المبدأ. فلا يُسمح بتغيير نشاط المقاهي أو إزالتها دون دراسة مسبقة.
ويجدر التأكيد على أن المقاهي لا تزال رائجة ومنظمة في القاهرة ومعظم مدن العالم، وتُدار ضمن أطر رقابية واضحة تشمل الكاميرات، والاشتراطات الصحية والمهنية، وتُعد جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمدينة. لذلك، فإن إعادة تخطيط المدن يجب أن تحفظ هذا الدور، وتُعيد إدماج المقاهي ضمن رؤية عمرانية متكاملة.
4. العودة التدريجية للسكان: لا استعجال في الفوضى
عودة المواطنين يجب أن تتم بتدرج بعد الخراب الذي طال الخرطوم، وفق خطة زمنية وأمنية وخدمية. كل حي يجب أن يخضع لتقييم قبل السماح بعودة ساكنيه. التسرع في الفتح الشامل سيُعيد الفوضى. العودة الآمنة تبدأ بعودة المؤسسات، ثم الخدمات، ثم الساكنين، ضمن ضوابط واضحة.
التحولات العمرانية الكبرى لا تحدث صدفة، بل تُبنى على رؤى استراتيجية واعية، تُوازن بين المتطلبات الأمنية، والاعتبارات الاقتصادية، والبنية الاجتماعية. وإذا كانت الظروف الراهنة قد فرضت إعادة التفكير في النماذج العمرانية المركزية، فإنها في ذات الوقت تقدم فرصة تاريخية لإعادة هيكلة المشهد الحضري على أسس أكثر عدالة واستدامة.
إن إعادة التخطيط ليست مجرد استجابة لأزمة، بل هي رهان مستقبلي على دولة متعددة الأقطاب العمرانية، حيث تتكامل المدن وتتوزع الأدوار، ويُبنى الحاضر برؤية تليق بمستقبل أكثر توازنًا وفعالية.