مقالات

الصادرات الرقمية: إعادة هيكلة الاقتصاد والصادرات

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الصادرات الرقمية: إعادة هيكلة الاقتصاد والصادرات

 الصادرات الرقمية بوصفها خيارًا اقتصاديًا جديدًا

لم تعد الصادرات في المفهوم الاقتصادي الحديث مقصورة على السلع المادية التي تُنقل عبر الموانئ والمعابر، وتُقاس قيمتها بالوزن أو الحجم أو الكلفة اللوجستية، بل تطور مفهوم التصدير ليشمل المنتج المعرفي والخدمة الرقمية التي تعبر الحدود دون شحن، وتحقق عائدًا يفوق في قيمته الاقتصادية والاجتماعية معظم الصادرات التقليدية.

إن الصادرات الرقمية تمثل اليوم أحد أهم أدوات إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، ليس فقط من حيث تنويع مصادر النقد الأجنبي، بل من حيث تقليل الاعتماد على الموارد الأولية، وتخفيف مخاطر التقلبات المناخية والأسعار العالمية، وبناء اقتصاد قائم على الفكر والمهارة والابتكار. وفي هذا السياق، يبرز قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بوصفه الحاضنة الرئيسية لهذا النوع من الصادرات، والقادر على إحداث نقلة نوعية في بنية الاقتصاد والصادرات معًا.

الصادرات الرقمية مقارنة بالصادرات التقليدية: الفارق الجوهري

تعتمد الصادرات التقليدية، كالزراعة والصناعة الاستخراجية، على موارد طبيعية ومدخلات كثيفة، تشمل الأرض والمياه والطاقة والنقل والتخزين، كما تتأثر بعوامل خارجية متعددة، مثل المناخ، والأسعار العالمية، وتكاليف الشحن، والقيود التجارية. ورغم أهميتها، فإن القيمة المضافة فيها غالبًا محدودة، ويذهب جزء كبير من عائدها إلى تكاليف الإنتاج والخدمات الوسيطة.

في المقابل، تقوم الصادرات الرقمية على رأس المال البشري بوصفه المورد الأساسي، حيث تعتمد على المعرفة والمهارة والتنظيم والابتكار. وتشير التجارب العالمية إلى أن القيمة المضافة في الصادرات الرقمية تتجاوز 90%، لأن تكلفة المدخلات المادية شبه معدومة، بينما يذهب معظم العائد مباشرة إلى الأجور والدخل القومي والاحتياطي النقدي. كما أن هذا النوع من الصادرات لا يحتاج إلى بنية لوجستية معقدة، بل إلى اتصال فعّال، وتشريعات واضحة، وبيئة تدريبية مناسبة.

تجارب عالمية ناجحة في تصدير المنتجات والخدمات الرقمية

أثبتت التجارب الدولية أن تصدير الخدمات الرقمية لم يعد حكرًا على الدول الصناعية الكبرى، بل أصبح مسارًا متاحًا للدول التي أحسنت الاستثمار في الإنسان والبنية المعلوماتية.

الهند تحولت من اقتصاد زراعي-صناعي تقليدي إلى واحدة من أكبر مصدّري خدمات البرمجيات وخدمات التعهيد في العالم، حيث تفوق عائدات قطاع تكنولوجيا المعلومات عائدات عدد من صادراتها السلعية، وأسهم القطاع في تشغيل ملايين الشباب دون هجرة فعلية.

إيرلندا أعادت هيكلة اقتصادها عبر جذب شركات التكنولوجيا العالمية، وتحولت إلى مركز أوروبي لتصدير الخدمات الرقمية، رغم محدودية مواردها الطبيعية، معتمدة على التعليم، واللغة، والتشريعات الجاذبة.

إستونيا، رغم صغر حجمها، بنت اقتصادًا رقميًا متكاملًا، وأصبحت تصدّر حلول الحكومة الإلكترونية والخدمات الرقمية، متجاوزة في أثرها الاقتصادي قطاعات تقليدية كانت تشكل عماد اقتصادها سابقًا.

سنغافورة نجحت في دمج الصادرات الرقمية مع القطاعات التقليدية، فرفعت إنتاجية الصناعة والتجارة والخدمات، وحوّلت المعرفة إلى منتج تصديري عالي القيمة.

هذه التجارب توضح أن التحول إلى الصادرات الرقمية ليس مرتبطًا بحجم الدولة، بل بوضوح الرؤية، والاستثمار في الإنسان، وحسن إدارة الموارد البشرية.

الصادرات الرقمية كأداة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني

يسهم التوسع في الصادرات الرقمية في:

تقليل الاعتماد على الصادرات الأولية منخفضة القيمة.

تعزيز مرونة الاقتصاد في مواجهة الأزمات.

رفع كفاءة القطاعات التقليدية عبر الرقمنة.

خلق فرص تشغيل نوعية ومستدامة.

تحسين ميزان المدفوعات دون استنزاف الموارد الطبيعية.

كما أن هذا التحول يعيد تعريف مفهوم العمل، حيث لم يعد مرتبطًا بالمكان، بل بالكفاءة، ويتيح للدولة أن تصدّر خدماتها إلى العالم وهي داخل حدودها الجغرافية.

أنواع الخدمات الرقمية والصادرات الرقمية عالية القيمة

تتسم الصادرات الرقمية بتنوعها واتساع مجالاتها، وعدم انحصارها في نشاط واحد أو تخصص تقني بعينه، وهو ما يمنحها مرونة عالية وقدرة على استيعاب مختلف الكفاءات والتخصصات. ويمكن تصنيف أبرز أنواع الخدمات والصادرات الرقمية القابلة للتصدير في الآتي:

إقامة نظم الذكاء الاصطناعي، بما يشمل تطوير الخوارزميات، ونماذج التعلم الآلي، وتحليل البيانات الضخمة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإدارة، والصناعة، والخدمات، والتعليم، والصحة.

تنفيذ مشروعات الرقمنة والتحول الرقمي للمؤسسات الحكومية والخاصة، بما في ذلك تحويل العمليات الورقية إلى نظم رقمية، وبناء قواعد البيانات، وأتمتة الإجراءات، وربط الأنظمة المؤسسية.

إدارة مشروعات الرقمنة والتحول الرقمي، وهي من أعلى الخدمات قيمة، حيث تعتمد على التخطيط، وإدارة التغيير، وتنسيق الفرق التقنية، وضمان الاستدامة المؤسسية للمشروعات الرقمية.

البرمجة وتطوير البرمجيات، وتشمل تطبيقات الويب، وتطبيقات الهواتف الذكية، والأنظمة المؤسسية، والمنصات الرقمية، وحلول التجارة الإلكترونية.

تصميم الدوائر الإلكترونية والأنظمة المدمجة، المرتبطة بالصناعة الذكية، وإنترنت الأشياء، والتحكم الصناعي، وهي خدمات رقمية ذات قيمة مضافة عالية وتطبيقات واسعة.

خدمات الدعم الفني والتعهيد التقني والعمل عن بُعد، التي تتيح تشغيل الكفاءات المحلية لخدمة شركات وأسواق خارجية دون انتقال جغرافي.

وتكمن الأهمية الاستراتيجية لهذه الخدمات في أنها لا تعتمد على مواد أولية، ولا تتطلب استثمارات رأسمالية ضخمة، بل تقوم أساسًا على المعرفة والتنظيم وجودة التدريب، مما يجعلها من أكثر الصادرات كفاءة من حيث العائد الاقتصادي والاجتماعي، ومن أقلها أثرًا على الموارد الطبيعية.

توصيات:

1. اعتبار الصادرات الرقمية قطاعًا استراتيجيًا ضمن سياسات التجارة الخارجية والتنمية الاقتصادية، لا نشاطًا ثانويًا.

2. الاستثمار السيادي في بنية الإنترنت بوصفها بنية تحتية وطنية، مع ضمان الجودة والاستقرار والتكلفة التنافسية.

3. إدماج المهارات الرقمية في التعليم الأساسي، وبناء مسارات تدريبية متدرجة منذ المراحل المبكرة.

4. توسيع مفهوم التدريب ليشمل جميع التخصصات، وربطها بسوق العمل الرقمي المحلي والعالمي.

5. تهيئة الإطار القانوني لتنظيم العمل الرقمي، وحماية البيانات، وضمان الحقوق، وتيسير التحويلات.

6. تشجيع العمل المستقل والتعهيد كجزء من الاقتصاد الرسمي، لا كأنشطة هامشية.

7. بناء شراكات مع الشركات العالمية لإنشاء مراكز تشغيل رقمية داخل الدولة، مع نقل المعرفة وتوطين المهارات.

8. قياس الصادرات الرقمية كمؤشر اقتصادي مستقل ضمن الحسابات القومية وميزان المدفوعات.

إن الصادرات الرقمية ليست بديلًا عن الصادرات التقليدية، بل مسارًا تصحيحيًا لإعادة التوازن الاقتصادي، ونقلة نوعية من اقتصاد يعتمد على الموارد إلى اقتصاد يعتمد على الإنسان. والدول التي أدركت مبكرًا أن الفكر مورد لا ينضب، استطاعت أن تعيد تشكيل اقتصادها، وتحقق استقلالًا اقتصاديًا نسبيًا، وتؤسس لمستقبل أكثر استقرارًا وعدالة في عالم تتسارع فيه التحولات.

ملحق

تعميق الأثر التحليلي :

أولًا: مؤشرات كمية دالة على وزن الصادرات الرقمية عالميًا

تُظهر المؤشرات الدولية أن الصادرات الرقمية أصبحت من أسرع مكونات التجارة العالمية نموًا، حيث تسهم خدمات تكنولوجيا المعلومات والخدمات الرقمية بنسبة معتبرة من الناتج المحلي في عدد من الدول، وتحقق معدلات نمو سنوية تفوق في كثير من الأحيان معدلات نمو الصادرات السلعية التقليدية. ففي بعض الاقتصادات الصاعدة، باتت عائدات الخدمات الرقمية تمثل أحد المصادر الرئيسية للنقد الأجنبي، متجاوزة قطاعات تقليدية كانت تاريخيًا عماد الصادرات. وتكمن أهمية هذه المؤشرات في أنها تؤكد أن التحول نحو الصادرات الرقمية لم يعد خيارًا نظريًا، بل واقعًا اقتصاديًا قابلًا للقياس والتكرار.

ثانيًا: الصادرات الرقمية كرافعة للقطاعات التقليدية لا بديلًا عنها

لا تعمل الصادرات الرقمية بمعزل عن القطاعات التقليدية، بل تؤدي دورًا محوريًا في إعادة هيكلتها ورفع كفاءتها. ففي الزراعة، تسهم الحلول الرقمية في تطوير الزراعة الذكية، وتحسين الإنتاجية، وإدارة الموارد، وربط المنتجين بالأسواق. وفي الصناعة، تدعم الأتمتة، والتحكم الذكي، وسلاسل الإمداد الرقمية، ما يرفع الجودة ويخفض الكلفة. أما في السياحة، فتشكّل المنصات الرقمية والتسويق الإلكتروني وإدارة الخدمات الذكية عنصرًا أساسيًا في جذب الطلب وتحسين تجربة الزائر. وبهذا المعنى، تمثل الصادرات الرقمية أداة تكامل وتحديث، لا إحلال أو إقصاء.

ثالثًا: إشارة واقعية للتحديات المصاحبة للتحول الرقمي

ورغم المزايا الكبيرة للصادرات الرقمية، فإن الانتقال إليها لا يخلو من تحديات، من أبرزها فجوة المهارات الرقمية، وضعف البنية التحتية في بعض الدول، والحاجة إلى أطر تشريعية مرنة ومتوازنة. كما يتطلب النجاح في هذا المسار إدارة فعّالة للتغيير المؤسسي، وتنسيقًا بين التعليم والتدريب وسوق العمل. غير أن هذه التحديات، متى ما أُديرت برؤية استراتيجية، تتحول من عوائق إلى فرص لبناء اقتصاد أكثر كفاءة واستدامة.

د. نوال خضر

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى