
الصَّيِّبُ النَّافِع: حين تعودُ المياهُ إلى مَجْراها الطبيعي
كان أبًا يعيش تفاصيل التربية يومًا بيوم، يراقب أبناءه وهم يكبرون، ويؤمن بأن “التربية بالحب” أصلٌ لا غنى عنه. لكن الحياة أحيانًا تختار الطريق الأصعب لتمنحنا دروسها الأكبر.
أكبر أبنائه، وكان في المرحلة الثانوية، بدأ يبرم شعره ويتدلى على شكل حبال. ناقشه والده طويلًا عن الدوافع، وما الميزة في ذلك، واستمر الحديث ساعات بلا نتيجة. وفي لحظة ضيق قال له الأب:
إن لم تحلق شعرك… “صلعة نمرة واحد” سيكون العقاب.
لم يحتمل الفتى التهديد، فحمل حقيبته وركب السُمبك مع مجموعة من الشباب للعبور إلى أوروبا. قُبض عليهم ورُدّوا، لكنه لم ييأس، فعاد المحاولة وتمكن في المرة الثانية من دخول الحدود الهولندية. هناك حُجز في معسكر لتعلم اللغة وإثبات أنه قادر على أن يكون مفيدًا.
بالنسبة لأسرته، كان قد خرج ولم يعد.
بحثوا عنه كثيرًا، والأب استخدم كل ما يملك من معارف ونفوذ ومشاعر… لكنه لم يعثر عليه.
وفي لحظة قدرية، التقى الفتى بشخصية مرموقة في هولندا، تعرف عليه وسأله:
لماذا أنت هنا؟
فأخبره الشاب بكل بساطة تفاصيل هروبه وخلافه مع والده.
تم الاتصال بالأسرة لطمأنتهم، وأكمل الشاب فترة تعلم اللغة بجدارة، وأثبت سرعة عالية في التعلم، واجتاز كل الاختبارات، ومنحته هولندا الإقامة.
وجاءت حرب الخرطوم…
هرب كثيرون، من بينهم والد الشاب نفسه.
لكن المفارقة أن الابن – الذي كان سببًا في ألم الأسرة – أصبح هو طوق النجاة لها بعد أن أصبح يحمل الجنسية الهولندية. أصبح الوالد مقيمًا في هولندا، وأسرته معة بهولندا، بينما يمضي الابن طريقًا جديدًا في عالم جديد.
جيلٌ كامل تبدلت داخله القيم بسرعة غير معهودة:
من قيم الجماعة إلى قيم الفرد،
من التماسك الاجتماعي إلى “المصلحة” و”كبر دماغك” و”أكسر الحنك”،
ومن البقاء في الوطن إلى الفرار منه.
انتهت القصة لتبدأ قصة وطن يعيد ترتيب نفسه بعد العاصفة.
إن الأزمة التي مرّ بها السودان لم تكن مجرد منعرج سياسي أو ظرف استثنائي طارئ، بل كانت صدمة تاريخية كشفت جزءًا كبيرًا من الخلل البنيوي الذي راكمته عقود من سوء التخطيط وتمركز التنمية وضعف الإدارة وتشرذم مؤسسات الدولة. ومع قسوتها، فقد حملت في جوفها “الصيب النافع” الذي يفتح الباب لإعادة تشكيل الدولة على أسس جديدة:
أسس تُعيد توزيع الوظائف، وتصحّح علاقة المركز بالأطراف، وتحوِّل الخرطوم من مدينة مختنقة إلى عاصمة سيادية–سياحية ذات طابع حضري رفيع، وتنهض بالأقاليم كمناطق إنتاج ذات استقلال اقتصادي، وقدرة على خلق فرص العمل، وتحريك المجتمع نحو التنمية الحقيقية.
هذه ليست رؤية مثالية أو حلمًا بعيد المدى، بل مسار واقعي يبدأ بإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي… وتلك هي جوهر فكرة الصيّب النافع.
في لحظات التحول الكبرى، يقف الإنسان أمام مرآة الحقيقة. هناك ما يفنى، وما يبقى، وما يفرض طريقًا جديدًا لا يشبه ما سبقه. وقد يشتد المطر حتى تتقاذفك السيول، ثم تكتشف بعد حين أنه كان مطرًا نافعًا، غسل الطرقات، وأزال الغبار، وكشف المعالم التي طمسها تراكم الأعوام.
هكذا هي التجارب القاسية… لا تكشف ضعف الدول فقط، بل تكشف أيضاً قدرتها على النهوض إن امتلكت الشجاعة لتصحيح المسار.
في كل دورة من دورات التاريخ، تتعرض الدول لاهتزازات عميقة تعيد ترتيب أولوياتها، وتكشف حجم التشوهات التي تراكمت عبر الزمن. وبعض هذه الاهتزازات، وإن جاءت قاسية، تتحول إلى صَيِّبٍ نَافِع يعيد للبلاد قدرتها على النظر إلى ذاتها بعيون جديدة، ويفتح أمامها طريقًا طال إغلاقه.
وقد مرّ السودان خلال السنوات الماضية بتجربة كشفت – بلا مجاملة – أن النموذج التنموي القائم على التمركز المفرط في الخرطوم لم يعد صالحًا للحياة ولا قابلًا للاستمرار، وأن الجغرافيا الوطنية نفسها تحتاج إلى إعادة توزيع للوظائف والأدوار بما يعيد المياه إلى مجراها الطبيعي.
أولًا: السودان واختناق التمركز… حين تجف قنوات الدولة
لقد تشكّل السودان بطريقة جعلت العاصمة تقوم مقام الدولة كلها. تراكمت فيها الوزارات، الجامعات، المصانع، الوكالات، الخدمات، النفوذ الاقتصادي، مراكز التدريب، ووسائل الإعلام. وبالمقابل، تُركت الأقاليم بلا بنى أساسية حقيقية، وبلا خدمات تعليمية وصحية متوازنة، وبلا استثمارات تحرك عجلة الإنتاج.
هذا النموذج خلق اقتصاد ظل واسعًا، وعمّق الفوارق، وأنتج هجرة داخلية ضخمة زادت من ازدحام الخرطوم حتى أصبحت غير قادرة على أداء وظائفها الطبيعية.
ثانيًا: الأزمة فرصة… حين يتحول المطر إلى خريطة جديدة
رغم الخسائر، فتحت الأزمة بابًا غير متوقع لإعادة التفكير في هيكلة الدولة. ففي مرحلة ما بعد الحرب، تعود الدول الناجحة إلى الأساس:
أين تُنتَج الثروة؟
أين تُبنى المدن؟
كيف تتوزع القوة البشرية؟
ما دور المركز وما دور الأطراف؟
اليوم يمكن للسودان أن يعيد رسم خرائطه بطريقة أكثر عقلانية، مستفيدًا من الدروس القاسية التي مرّ بها. إنها فرصة ذهبية لإعادة الإنشاء على منطق الإنتاج لا على منطق التمركز، وعلى منطق الخدمة لا على منطق السيطرة.
ثالثًا: رؤية التنمية المتوازنة
1. إعادة الجامعات إلى مناطق الإنتاج
الجامعات ليست مباني فقط، بل مؤسسات لصناعة المعرفة. وبقاء عشرات الجامعات الخاصة في الخرطوم بلا ارتباط بمحيط اقتصادي يفرغ التعليم من وظيفته التنموية.
وفق الرؤية الجديدة:
تُعاد الجامعات الحكومية إلى ولايات السودان كمحركات تنمية محلية.
تُمنع الجامعات الخاصة من التمركز في الخرطوم.
تبقى ثلاثة فقط في العاصمة:
جامعة الخرطوم
جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا
جامعة أم درمان الإسلامية
وتكون مراكز بحثية سيادية .
2. إعادة المصانع إلى مكانها الطبيعي
لا معنى لوجود مصانع زراعية أو غذائية في العاصمة بدل مناطق الإنتاج. إعادة المصانع إلى مواقعها تحقق:
فرص عمل
استقرارًا اقتصاديًا
خفض تكلفة النقل
توطينًا سكانيًا
قيمة مضافة أعلى
3. إنشاء المجلس الأعلى للتنمية المتوازنة
مجلس بسلطات تنسيقية وتنفيذية يربط:
التخطيط – التنمية – الحكم المحلي – الاستثمار – البنى التحتية
ويعمل كغرفة عمليات لإعادة تدفق الماء في شرايين الدولة.
4. إعادة تعريف دور الخرطوم: من مدينة مختنقة إلى عاصمة سيادية–سياحية
تتحول الخرطوم إلى:
مركز سيادي خفيف للسلطات العليا فقط
عاصمة سيادية تستضيف مؤسسات حكم وسيادة
عاصمة سياحية وثقافية ذات طابع نهرين فريد
تربط ب شبكات النقل بين الشرق والغرب والجنوب
مدينة خدمات عليا: المؤتمرات، مراكز القرار، المنظمات، البنوك السيادية
ويُعاد توزيع الوظائف غير السيادية إلى مدن التخصص في الولايات.
ومن أبرز المشروعات:
تحويل مطار الخرطوم إلى حديقة حضرية كبرى.
نقل السفارات إلى بورتسودان لتصبح مدينة دبلوماسية لوجستية
إنشاء مطارات دولية في مناطق الإنتاج (القضارف، الأبيض، نيالا، دنقلا، كسلا، الفاشر، كوستي).
نقل الإدارات التنفيذية إلى مدن متخصصة حسب النشاط الاقتصادي.
رابعًا: ضبط الوجود الأجنبي ومنع العشوائيات
لا تنمية بلا تنظيم حضري واضح. وتشمل الإجراءات:
منع الأعمال العشوائية
إعادة تنظيم المقاهي والخدمات العامة
ضبط العمالة الأجنبية غير المنظمة
حماية السوق المحلي والوظائف الوطنية
خامسًا: المدن المتخصصة… قلب الرؤية
مدن صناعية، زراعية، لوجستية، صحية، جامعية، تكنولوجية…
ترتبط بشبكة نقل وطنية، وتخلق توزيعًا عادلاً للفرص وتخفف الضغط عن الخرطوم.
سادسًا: المكاسب الاستراتيجية المتوقعة
انخفاض الضغط السكاني على العاصمة
زيادة الإنتاج المحلي
عودة حركة العمل إلى الولايات
تقلص اقتصاد الظل
نشوء طبقة وسطى منتجة
تراجع الهجرة الداخلية والخارجية
بناء دولة ذات وزن متوازن ومتعدد المراكز
التوصيات :
1. إنشاء المجلس الأعلى للتنمية المتوازنة بسلطات تنفيذية واضحة.
2. إعادة تموضع الجامعات وفق خريطة الإنتاج الوطني.
3. إعادة توزيع المصانع على مناطق الإنتاج خلال خطة زمنية واضحة.
4. إعادة تعريف الخرطوم كعاصمة سيادية–سياحية.
5. إنشاء مدينة دبلوماسية في بورتسودان ونقل السفارات إليها.
6. بناء مطارات دولية إقليمية تربط السودان خارجيًا وداخليًا.
7. تنظيم الأسواق والوجود الأجنبي وضبط الأعمال العشوائية.
8. إعادة تأهيل المقاهي، الساحات، والخدمات العامة وفق نموذج حضاري.
9. إطلاق برنامج المدن المتخصصة بتمويل حكومي–استثماري مشترك.
10. ربط الجامعات بالاقتصاد الحقيقي عبر برامج تطبيقية وبحثية.
إن السودان اليوم يقف أمام لحظة فارقة، لحظة تُشبه المطر الأول بعد موسم طويل من الجفاف.
لحظة تُثبت أن الخراب ليس نهاية الطريق، وأن سقوط البُنى القديمة قد يكون هو الشرط الأول لبناء دولة جديدة تقوم على الإنتاج لا على الجدل، وعلى التوزيع العادل لا على التمركز، وعلى سيادة القرار لا على هشاشة الواقع.
إن الصيّب النافع ليس مطرًا ينزل من السماء فحسب، بل هو قرار تتخذه الأمم حين تختار أن تعود مياهها إلى مجراها الطبيعي… حين تختار أن تبني لا أن تندب، وأن تنطلق لا أن تدور في حلقة مفرغة.
وما يزال الطريق مفتوحًا لصناعة دولة حديثة بوزنها، لا بوزن عاصمتها.




