مقالات

العرب: اللعب بالكرة وبدون كرة

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني


العرب: اللعب بالكرة وبدون كرة

• في عام 2011، صدرت مذكرات الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، ملك الأردن، بعنوان: “فرصتنا الأخيرة: السعي نحو السلام في زمن الخطر”.

• الكتاب، المكون من نحو 450 صفحة، خُطِّط لترجمته إلى ثماني لغات أخرى بجانب العربية والإنكليزية، مما يشير إلى أنه موجه للعالم الخارجي أكثر منه للداخل.

• ومع اتساع موضوع الكتاب ووجود ثلاثة أسماء ثقيلة على الغلاف—بيل كلينتون، تومي فرانكس، وورن بافت—لم يظهر السودان فيه إلا بشكل عابر.

• شكل أقرب للهامش منه للمتن، وفي مناسبتين فقط: مرور الملك على مؤتمر الخرطوم ضمن حرب 1967، وذكر زيارة رسمية في الفصل الخامس عشر.

• لكن المدهش أن الملك لم يتحدث عن أي مباحثات أو اتفاقيات—وهي جوهر الزيارات الرسمية—بل ركز على طريقة استقباله في مطار الخرطوم، والطريق إلى القصر الجمهوري، والعربة التي أقلته، وشكل الهدية التي جاء بها وتلقّاها.

• كأن قيمة الزيارة أصبحت مسألة ضيافة لا سياسة، ومقاعد سيارات لا علاقات دول.

• استهل الملك سرد الجزء المتعلق بالسودان بمدخل يكشف زاوية الرؤية التي كتب بها، حين قال: “في العام 2003 استضاف الأردن المنتدى الاقتصادي العالمي – مؤتمر دافوس… ودُعيت رانيا (زوجته) للانضمام إلى مجلس الإدارة، فأصبحت العضو العربي الوحيد فيه”.

• ثم أضاف: “هل هناك أجمل من دافوس مكاناً يلاحق فيه المرء كبار قادة الاقتصاد في العالم محاولاً إقناعهم بالاستثمار في الأردن؟ لكن هذه الأجواء لم تكن دائماً الأجواء التي أحاطت بي خلال تلك السنة؛ فبعد بضعة أشهر قمت بزيارة للسودان، وكان التناقض لافتاً بالفعل”.

• والقارئ، إذ يتوقف عند هذا المدخل وهذه المقارنة بين دافوس وفنادقه و”كبار الاقتصاد”، وبين السودان بلا مقدمات في الطرف الآخر، لا يسعه إلا الشعور بأن الانشغال بالمظاهر أحياناً يحجب الجوهر.

• كأن الزيارة لم تكن للسلام أو التعاون، بل لتقدير جودة الطريق من المطار إلى القصر. والمقارنة ليس سوى ما توهم انهما ضدين، والضد يظهر حسنه الضد.

• في مقدمة الكتاب يسأل الملك نفسه ثم يجيب: “لماذا يكتب رئيس دولة كتاباً؟ ما أكثر الأسباب التي تجعل أمراً كهذا يفتقر للروية والحكمة… وأضف إلى ذلك ضرورة الحفاظ على العلاقات مع دول قد تشعر بالإساءة”.

• ومع ذلك مضى قائلا: “على بركة الله مضيت متجاوزاً تلك الاعتبارات”.

• والان، بماذا يمكن للمرء أن يعلّق على هذا الذي فعله عبد الله ابن الحسين؟ سوى انه لا يشبه إلا دعوة شخص لوليمة عامرة، فيقضي سائر الأمسية يتحدث عن مقعد السيارة التي أقلته، ناسياً الطعام والونس والناس.

• فالملك، رغم مكانته، انشغل بما يُعد في العرف الدبلوماسي “تفاصيل بروتوكولية عابرة”، وجعلها مادة عرضها على العالم كله بوصفها خبرة دبلوماسية.

• كأنه يقول للعالم: اتركوا السياسة والتاريخ… دعوني أحدثكم عن الطريق من مطار الخرطوم إلى القصر الجمهوري.

• المفارقة هنل ليست فردية ولا أردنية فقط، بل هي جزء من مزاج عربي رسمي طالما انشغل بالقشور وترك الجوهر.

• فقد وثّق غازي القصيبي في “حياة في الإدارة لشهادات تكاد تكون صادمة في لقاءات مؤتمرات قمم الدول العربية: رؤساء يوافقون على قرارات لا يعرفون مضمونها، وزراء يلقون خطباً لا علاقة لها بالموضوع، وملفات ضخمة تُترك للهوامش.

• هذه المفارقة تتكرر اليوم مع افتتاح كأس العرب لكرة القدم: أضواء، كاميرات، مباريات، ومشاهد يراقبها العالم، بينما التحديات الحقيقية، مثل العلاقات بين الدول، تبقى في الظل.

• فالكرة، مثل السياسة، أصبحت لعبة صور وانطباعات أكثر من كونها أفعالاً حقيقية.

• ومن قصص الرياضة وفوائدها الرمزية ما حدث في عيد الميلاد عام 1914، حين خرج جنود ألمان وبريطانيون من خنادقهم في الحرب العالمية الأولى ولعبوا مباراة ودية، حتى اضطر القائد الألماني لنقل جنوده بعد أن فوجئ بتقاربهم مع العدو.

• هذه الحادثة تُبرز كيف يمكن للرياضة أن تكون جسراً للسلام والتواصل، حتى في أصعب الظروف.

• فالرياضة بطبيعتها رسالة سلام وتواصل بين الشعوب، وساحة للتنافس الشريف.

• فمن مباراة العدوَّين في 1914 إلى الفرق التي تتنافس اليوم في كأس العرب، يظهر دور التسامي، والتنافس النزيه، والاعتراف بالآخر.

• وهكذا، حين نتابع البطولة العربية، نتذكر أن العالم يراقب أيضاً، لكن ما يهم حقاً ليس المقاعد ولا الأضواء، بل ما يحدث داخل الملاعب وبين الشعوب: التفاهم، والاحترام، والتعاون.

• وهو ما يذكرنا بمفارقة مذكرات الملك العربي عبد الله ابن الحسين: الانشغال بالمظاهر أحياناً يحجب الجوهر، سواء في السياسة أو الرياضة.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى