مقالات

صدى الحديد والقلعة القديمة: مفاتيح النجاة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

صدى الحديد والقلعة القديمة: مفاتيح النجاة

كان الليل يهبط على الوادي ببطءٍ يذكّر بانسلال العصور، والظلام ينساب فوق الصخور كأنه ماء أسود يغمر الأرض في سكينة لا تعرف الرحمة. وفي لحظة تتكرر كل قرون، دوّى صدى الحديد من أعماق الجبل، صدى يشبه نبضًا قديمًا يستيقظ بعد سبات، أعلى من الريح، وأقرب إلى نداء لا يسمعه إلا قلبٌ لم يصدأ. خلف التلال العاتمة ارتفعت القلعة القديمة، واقفة كأيقونة زمنٍ فقد الناس ملامحه. الأساطير تهابها، والعقول لا تملك الجرأة على تكذيبها. بقيت، كما هي، تحرس سرًّا ينتظر من يتحمل ثقل الاستماع.

في تلك الليلة وقف العقلاء السبعة عند حافة الوادي. لم يأتوا بأمر سلطان، ولا بدافع منصب، بل لأن الصدى اختارهم، ومن يسمع صدى الحديد يعلم أنه ليس مجرد صوت، بل قرار كوني. تقدمت بينهم “إيلاف”، بخطوها الواثق وصوتها الممتلئ بحكمةٍ ناضجة وجرأةٍ لا تخجل من النور. وما إن لامست العتبة الأولى حتى ارتجّ الوادي، كأن القلعة تنفض عنها غبار الزمن. رفعت عينيها إلى الباب الهائل وقالت:

“من يسمع الصدى… لا يعود كما كان.”

تحرك الباب بصوت يشبه احتكاك القرون، كأن يدًا عظيمة لا تُرى تزيح عن العالم ستارًا ثقيلاً. وحين انشق لأول مرة، اندفع منه نور خافت، لا يشبه نور القمر ولا الشمس، بل نورًا يفحص الأرواح ويختبر النقاء قبل أن يختبر الخطوات. أدرك السبعة أن القلعة لا تبحث عن قوة، ولا تسعى لمجد، بل تريد صدقًا لا يساوم. وأن كل جماعة مطالبة بإرسال واحد يعرف الطريق إلى الحقيقة حتى لو خسر الطريق إلى ذاته.

اجتمع السبعة في دائرة نور بلا مصدر، وتعاهدوا على اختيار من يستحق العبور. فهموا أن القلعة لا تُفتح باليد، بل بالقلب، وأن مفاتيحها ليست ذهبًا ولا جواهر، بل قدرات تُغيّر مصائر الأمم: كشف الخديعة، إعادة التوازن، بثّ نورٍ يصل إلى الأماكن التي سقطت في العتمة، فتح الدروب التي وهنت، وحماية عهد المعرفة القديم بين الإنسان والكون.

لكن الدخول ليس متاحًا لكل طامع. فالمختار يجب أن ينال ثلاثة أذونات: إشارة من الحكماء السبعة، ثقة من الناس الذين يرون بنور القلوب، وموافقة من الحارس الأعظم، ذلك الكائن الذي تتحدث عنه الأساطير ولا يظهر إلا لمن يستحق. ومن يحاول العبور بلا إذن… يبتلعه الجبل كما يبتلع الصدى.

سبع ليالٍ كاملة قضتها الجماعات بحثًا عن ممثليها. لم تكن الشروط سهلة: صفاء، شجاعة، صدق، واستعداد لمواجهة الظلال التي لا تُهزم بحديد بل بشجاعة الروح. ومن يخدع القلعة يُغلق الباب في وجهه إلى الأبد.

وبينما كانت القلعة تستعد لفتح أبوابها السبعة، كان العالم خارجها يعيش انهيارًا هادئًا؛ أسر يجلس أفرادها متجاورين لا يجمع بينهم صوت، كل واحد منهم يحدّق في جمرة نارٍ صغيرة تنطفئ ثم تتقد ثم تنطفئ، كأنها تسحب منهم الحديث والدفء شيئًا فشيئًا. كانوا يمضون ساعات يراقبون شرر الحطب أو ينشغلون بتقليم أغصان اليابس أو يلهثون خلف أعمال متكررة تُبعدهم عن النظر إلى وجوه بعضهم. صارت العلاقات تمتد بلا عمق، كجذور نبات بري ينمو على سطح التراب، بلا ظل، بلا ثمار. الأخ يجاور أخاه دون أن يلمح الحزن في عينيه، والأم تمر بجوار ابنتها دون أن تشعر بالبرد في صوتها. كانت الأرواح تتباعد رغم قرب الخطوات، كأن الطبيعة نفسها تمارس سحرًا صامتًا يسحب الناس من بعضهم.

كانت القلعة تسمع ذلك. وكان صدى الحديد نداء إنقاذ أكثر منه نداء مغامرة؛ فالعالم صار يفقد صوته الحقيقي، يذوب في صمتٍ مقلق كأن العواطف جفت، وكأن البشر يعيشون في جزرٍ من طينٍ متباعد، يحتاج كل منها لقطرة ضوء.

اختار الحكماء ممثليهم أخيرًا. وفي مشهد كأنه فصل من حلمٍ يقف على حافة الواقع، وقفت سبعة ظلال بيضاء أمام القلعة، كل واحد منهم يحمل أثر حكمة، وأثر جرح، وأثر حلم. وحين فُتح الباب الأول، علا الصدى مجددًا، إيذانًا ببدء المغامرة.

كانت أبواب القلعة السبعة تنتظرهم: المتاهة الأولى حيث تتجسد المخاوف، ثم قاعة المرايا التي تُظهر الإنسان كما يخفيه، ثم الوادي الرمادي حيث لا يعبر أحد إلا بنور داخلي، ثم الجسر الناقص الذي لا يكتمل إلا بالإيمان، ثم غرفة الأسرار السبعة حيث تُسلّم المفاتيح بالبصيرة لا باليد. وكلما تقدموا، خفّت الظلال خارج القلعة، وعاد الضوء يتسلل إلى الوديان كأن الأرض تستعيد نبضها.

وفي الليلة السابعة ظهر الحارس الأعظم… كائن من نور، لا شكل له إلا الحقيقة. قال لهم:

“النجاة ليست أن تعبروا القلعة… بل أن يحمل كل منكم نورًا يبدد سبع ظلمات. المفاتيح ليست لكم… بل للعالم.”

وحين فتح الباب الأخير، انطلقت مفاتيح النور السبعة، كل واحد منها يلتف حول صاحبه كأنه يعرفه منذ بدء الخليقة. وبينما عاد المختارون إلى الوادي، كانت النيران في البيوت تخفت وتعود، وتنساب الدفء من جديد بين أفراد العائلة، ويقترب الأبناء من أمهاتهم كما يعود الفراش إلى عشّه، ويجلس الناس تحت الشجر ويستمعون لصوت الريح لا لصمت القلوب.

لم تكن الرحلة مغامرة عابرة، بل بداية زمن جديد—زمن يستعيد فيه العالم القدرة على الحب والضوء والصدق، لا عبر وسيط، بل عبر الإنسان نفسه. كل من سمع صدى الحديد في تلك الليلة أدرك أنه يقف أمام بداية لا تشبه ما قبلها… بداية مفاتيح النجاة، وبداية الانتصار على ظلام الطبيعة حين يتسلل إلى القلوب.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى