
الليلة السوداء: وادي الصمت… الحديقة الخضراء
لم يكن سامي يدرك أن تلك الليلة ستفتح له بابًا إلى عالم لا تشبه قوانينه شيئًا مما عرفه في حياته. غفا دقائق قليلة، فإذا به يجد نفسه واقفًا داخل قصر حجري مهجور، قاعة طويلة تمتد بلا نهاية، سقفها يتساقط، وجدرانها تتنفس كأن أرواحًا حبيسة تضغط للخروج. في قلب القاعة وقف رجل طاعن في السن، وجهه شاحب كأنه من زمن آخر، يمسك في يديه ورقة سوداء ينبعث منها دخان بارد. رفع الرجل رأسه وحدّق في سامي بعينين أثقلتهما القرون وهمس بصوت خافت: “هذه ليست فاتورة إيجار… هذا حكم.” وما إن قالها حتى اشتعلت الورقة بنار بلا لهب، ثم تمزقت، فتبدد الدخان، وسكت العواء الغريب الذي كان يملأ المكان، وسقط الصمت على القصر كحجر ثقيل.
لكن الصمت لم يدم طويلًا؛ اهتزت الأرض وتحطم القصر كجسد مريض فقد آخر أنفاسه. فتحت الأرض فمًا أسود وابتلعت الرجل، واختفى كل شيء إلا سامي الذي وجد نفسه واقفًا وحيدًا في صحراء ممتدة لا نبات فيها. لم يكن الرمل هو ما يغطي الأرض بل طبقة من تراب أسود كأن الأرض احترقت منذ مئات السنين. وبينما كان يحدق في الأفق، ظهرت أسرة كاملة تمشي ببطء، يحملون صناديق قليلة، ملامحهم متعبة، كأنهم هاربون من مدينة ابتلعت قلوبهم قبل أن تبتلع بيوتهم. قالوا له عندما اقترب: “هربنا من مدينة الإيجار الأسود… نبحث عن بداية جديدة.” ثم أشاروا إلى قطعة أرض خالية بعيدة، كأنها تنتظر مولد حياة لم يحن زمنها بعد.
تركهم سامي وتقدم نحو الطريق الذي بدا كأفعى منبسطة تمتد نحو العدم. لكنه أدرك سريعًا أن الطريق ليس طريقًا… بل كائن يعيش تحت الأرض؛ يشعر بتموّجه كلما تحرك. كان سامي يحمل في صدره ثقلًا غريبًا، كأن الهموم المتراكمة فيه تحولت إلى كتلة طينية تبحث عن مخرج. وفي النهاية اضطر للتوقف والتخلص مما أثقله، لكنه كان يفكر بالآخرين أكثر من نفسه: “أخشى أن يمر أحد فيطأ ما خرج مني… لا أريد أن أؤذي أحدًا.” ورغم خوفه، لم يكن هناك أحد. لا مارة ولا أصوات ولا حتى ظل لكائن حي. كان الخوف كله داخليًا، أكبر من حجمه في الواقع، لكنه ظل يبحث عن مكان لا يؤذي فيه أحدًا.
وبعد مسافة طويلة، ظهرت قطعة أرض غريبة محاطة بجدارين فقط، كأن من بناها أراد أن يترك نصف ملجأ لمن سيأتي في المستقبل، خصوصية دون عزل، وسترًا بلا حواجز. دخل سامي، وبمجرد أن وضع قدمه شعر أن حمولة سوداء كانت في روحه تتخفف شيئًا فشيئًا، لكنه لم يكد يستعيد أنفاسه حتى اهتزت الأرض تحت قدميه. تشققت، وخرجت يد مظلمة من الأعماق تجر وراءها مخلوقًا مصنوعًا من دخان أسود، بلا وجه، بلا صوت، بلا شكل، يتحرك كأنه يلحق بظل فقده منذ زمن. اقترب المخلوق منه وهمس بصوت لا يسمع إلا داخل الروح: “أنت مصدر كل هذا… أنت الذي يخاف، رغم أن لا أحد يراك.
قبل أن يغمره الظلام، انشق ضوء أبيض حاد كالسيف، وظهرت فتاة تتقدم بخطوات ثابتة. كانت ترتدي عباءة فضية ينساب منها نور صافٍ، بدت كأنها خرجت من قلب الأحلام. اسمها ليلى، ولم يكن سامي يعرفها، لكنها بدت كأنه يعرفها منذ زمن بعيد. رفعت يدها، وانتشر الضوء في المكان كأن السماء نفسها أرسلت يدًا لتصد الظلال. تراجع المخلوق يصرخ بصمت، واختفى مع انهيار الجدارين وانفتاح الهواء حولهما. نظرت إليه ليلى وقالت: “الخوف يلاحقك من الداخل… قم واعبر معي.
سار سامي بجانبها، ولأول مرة بدا الطريق طبيعيًا، لا ينبض، لا يتنفس، لا يبتلع شيئًا. وفي نهاية الطريق ظهر وادٍ عميق، صامت بشكل مرعب، وكأن كل أصوات العالم ماتت عند مدخله. كان الوادي هو مصدر كل الظلال والأحلام الثقيلة التي تربك الناس. همست ليلى: “إن لم نغلق بوابة الصمت، سيعود كل ما رأيته من جديد.” كانت البوابة فتحة تلمع بضوء أسود، يخرج منها مخلوقات الظل، تتسلق الصخور وتهاجم بلا صوت.
وقف سامي أمامها، والخوف داخله يغلي، لكنه هذه المرة لم يتراجع. رفع يده، وانطلقت منه طاقة بيضاء، كأنها خلاصة خوفه وقلقه وهمومه التي حملها طوال حياته، تحولت إلى موجة قوية أغلقت بوابة الصمت، فانطفأت الظلال، وسكن كل شيء. وفي لحظة خاطفة، تحولت أرض الوادي إلى حديقة خضراء، كأن الحياة عادت لتنتقم من الموت.
نظرت ليلى إليه وقالت بابتسامة هادئة: “لقد نجوت… لأنك لم تفكر بنفسك فقط.” شعر سامي بخفة لم يعرفها من قبل. وعندما عادا، وجدا الأسرة التي هربت تضحك بجوار نار صغيرة، والأب الذي كان وجهه مرهقًا قد بدا مرتاحًا وكأن حملًا ثقيلًا انزاح عن روحه. جلس سامي وليلى تحت شجرة ولدت من العدم، كانت رمزًا لحياة جديدة بلا ظلال. سأله بصوت خافت: “هل ستبقين؟” فردت بابتسامة مضيئة: “طالما أن الضوء باقٍ في قلبك… سأبقى.”
وأشرقت شمس لا غروب لها فوق الأرض التي كانت يومًا صحراء سوداء.





