تقدير الذات والتعلق السريع: فهم لذكريات الطفولة وبحث عن قيمة ضائعة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

تقدير الذات والتعلق السريع: فهم لذكريات الطفولة وبحث عن قيمة ضائعة
لا يبدأ الإنسان رحلته نحو التوازن النفسي والاجتماعي من الخارج، بل من الداخل؛ من تلك اللحظة التي يقرر فيها أن يكون مصدر تقديره لذاته من ذاته، لا من الآخرين. فالتعلق السريع بالناس، والانجذاب المفرط لأي علاقة تمنح شيئًا من الدفء، ليس إلا انعكاسًا لفراغ عاطفي تكون جذوره في الغالب قديمة، مرتبطة بغياب التقدير — خصوصًا من أقرب الناس، الوالدين.
لكن هذا الفراغ ليس قدرًا، ولا هو علامة ضعف. إنه إشارة استراتيجية إلى وجود خلل في منظومة تقدير الذات.
التعلق السريع… عندما يتحول الاحتياج العاطفي إلى استراتيجية بقاء
الشخص الذي يتعلق بسرعة يفعل ذلك لأنه يبحث عن تقدير كان يجب أن يحصل عليه في مرحلة مبكرة من الحياة.
في غياب هذا التقدير:
ينمو الطفل وهو يفتش عن صور بديلة للقبول.
ويتشكل داخله اعتقاد أن قيمته مرهونة برضا الآخرين.
ويكبر وهو يتعامل مع العلاقات باعتبارها تعويضًا وليس تفاعلًا.
وهنا يتحول التعلق إلى آلية بقاء نفسية، لا إلى علاقة صحية.
يصبح هذا الفرد أكثر عرضة للاستغلال.
يتراجع إنتاجه بسبب عدم الاستقرار النفسي.
يتخذ قرارات متسرعة ويُسيء التقييم.
قد يدخل في علاقات أو عقود مبنية على هشاشة، لا على إرادة متزنة.
التقدير الحقيقي للذات ليس شعورًا عابرًا ولا كلمات تُقال.
إنه منظومة متكاملة تتضمن:
1. وعي الذات: فهم نقاط القوة والضعف.
2. المسؤولية: إدراك أن الإنسان شريك في تشكيل واقعه.
3. الحدود: معرفة متى تقول “لا” دون خوف.
4. الاستحقاق: الإيمان أن العطاء يبدأ من الداخل.
5. الصحة النفسية: التعامل مع الذات باعتبارها مشروعًا يجب صيانته.
تحتاج النفس إلى قواعد داخلية صلبة تحميها من التعلق، وتمنحها القدرة على العيش دون انتظار تصفيق أحد.
ولهذا يُقال:
“أحب نفسي… لأستطيع أن أحب الآخرين دون تعلق
تقدير الذات ليس رفاهية نفسية، بل هو:
قاعدة إنتاج،
وأساس نجاح،
ودعامة علاقات صحية،
وخط دفاع ضد التعلق،
وأداة لاتخاذ قرارات واعية،
وطريق لخلق إنسان قادر على الإسهام في مجتمعه.
وعندما يبني الإنسان تقدير ذاته من داخله، يصبح أقل احتياجًا للتعلّق، وأكثر قدرة على بناء علاقات ناضجة، وأقوى في مواجهة الضغوط.
يمثل تقدير الذات حجر الأساس في البناء النفسي والاجتماعي والاقتصادي للإنسان. فهو ليس شعورًا عابرًا، بل بنية داخلية تحدد قدرة الفرد على اتخاذ القرار، وتؤثر في علاقاته، واستقراره العاطفي، وكفاءته في العمل، ومرونته في مواجهة ضغوط الحياة. وعندما يغيب هذا التقدير، تظهر أنماط غير مستقرة في العلاقات، أبرزها التعلق السريع—ذلك الانجذاب العاطفي غير المتوازن الذي لا يدل على حب حقيقي، بل على محاولة تعويض نقص قديم لم يُعالَج. وتكشف الدراسات النفسية أن التعلق السريع ليس سلوكًا عفويًا، بل استجابة دفاعية تشكلت في الطفولة حين لم يجد الإنسان ما يكفي من التقدير والدعم، فظل يبحث في الآخرين عمّا فقده في ذاته.
وتشكل رحلة إعادة بناء تقدير الذات موردًا استراتيجيًا ينعكس أثره على الفرد والمجتمع، حيث يصبح أساسًا للقرارات الواعية والعلاقات الصحية والإنتاجية المستقرة.
يبدأ الإنسان مسار إصلاحه الداخلي من لحظة يدرك فيها أن قيمته لا تستمد من الآخرين، ولا من المديح أو العلاقات العابرة، وإنما من معرفته بقدر نفسه. وتُرسّخ الرؤية الإيمانية هذا المعنى عبر قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾،
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾،
وفي الحديث: “لا يحقرن أحدكم نفسه”، وفي الأثر: “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”.
هذا التكريم الإلهي يجعل قيمة الإنسان ثابتة، ويوجه إلى ضرورة صون النفس باعتبارها عبادة وسلوكًا حضاريًا.
لكن حين لا يجد الطفل احتواءً كافيًا أو دعمًا عاطفيًا في سنوات التكوين الأولى، تتشكل فجوة داخلية تظل تؤثر على الشخص حتى بلوغه. وتوضح نظريات الارتباط (Bowlby & Ainsworth) أن غياب الأمان العاطفي يؤدي إلى تكوين نمط ارتباط غير آمن، يجعل الفرد في المستقبل يميل إلى التعلق السريع، ويبحث عن الحب كوسيلة للبقاء، لا كمساحة للنمو. فتنشأ داخله قناعة خاطئة مفادها أن قيمته تعتمد على رضا الآخرين، وأنه يحتاج إلى الالتصاق العاطفي كي يشعر بالأمان.
على المستوى الاجتماعي، يصبح الشخص شديد الحساسية لرفض الآخرين، وأكثر عرضة للاستغلال. وعلى المستوى الاقتصادي، تتراجع إنتاجيته بسبب التشتت وعدم الاستقرار الداخلي، بينما تتأثر قراراته الإدارية ويزيد احتمال دخوله التزامات قانونية غير مدروسة نتيجة بحثه عن القبول. وهكذا يتحول التعلق السريع من ظاهرة نفسية فردية إلى عبء تنموي يطال الأسرة والمؤسسات والمجتمع.
وتشير مدارس علم النفس الإنساني (Maslow وRogers) إلى أن تقدير الذات ليس ثقة سطحية، بل منظومة متكاملة تشمل وعي الذات، والمسؤولية الشخصية، والقدرة على وضع الحدود، والإحساس بالاستحقاق، وصيانة الصحة النفسية. فكما تحتاج الدول إلى مؤسسات قوية، تحتاج النفوس إلى بنية داخلية صلبة تحميها من التعلق غير الصحي، وتمكّنها من اتخاذ قرارات ناضجة.
وبرغم أهمية برامج التدريب (الكورسات)، فإنها لا تستطيع بناء تقدير الذات ما لم يكن الأساس الداخلي قائمًا؛ فهي أدوات ووسائل، لكنها لا تعوض هشاشة الداخل. فالتقدير الداخلي هو رأس المال النفسي الذي إن فُقِد، انهارت كل الإضافات عند أول اختبار.
ويمثل الوقوف الصادق مع النفس نقطة التحول الاستراتيجي، حيث يبدأ الإنسان بإعادة بناء صورته الذاتية، وتعلم الحزم والحدود، وإدارة العلاقات بوعي، وتحويل سلوكه من ردود أفعال إلى أفعال متزنة. وهذا المسار ليس علاجيًا فقط، بل برنامج تطوير ذاتي يهدف إلى خلق إنسان قادر على الإسهام الاجتماعي والاقتصادي والفكري.
وواقع عملي مهم: الشخص الذي يعرف كيف يقدّم نفسه بوعي ومهنية، ويوازن بين التواضع والاعتراف بقدراته، غالبًا يحصل على مركز مرموق ومكافأة مناسبة لإمكاناته. أما الشخص الذي يقلل من نفسه بشكل مفرط، أو يتسم بتواضع مبالغ فيه، فقد يفقد فرصه وحقوقه في العمل، ولا يحصل على التقدير أو العائد الذي يناسب قدراته الحقيقية، رغم كفاءته وعلمه. وهكذا يصبح التوازن بين تقدير الذات الواقعي والتواضع المتزن مهارة استراتيجية لضمان الاستفادة العملية من إمكاناته.
ويبين علم الاقتصاد السلوكي أن الشخص المستقر نفسيًا، القادر على تقديم نفسه بوعي، أكثر إنتاجية، وأقل عرضة للاستنزاف، وأكثر قدرة على الالتزام والتعلم والإبداع. ومن هنا يصبح تقدير الذات رأس مال نفسي واستراتيجي يرتبط مباشرة بجودة التعليم والعمل والإدارة، ومخرجات الإنتاج، والاستقرار الأسري والاجتماعي.
وتكتمل الصورة حين ندرك أن التعلق السريع ليس حبًا، بل ذاكرة قديمة تبحث عن ذات ضائعة، وأن تقدير الذات هو الطريق لبناء إنسان واعٍ، حرّ، قادر على الحب دون ذوبان، والعطاء دون استنزاف، واتخاذ القرار دون خوف.
توصيات:
1. مراجعة أسبوعية للذات: العواطف، العلاقات، الإنجاز، والتوازن، بهدف قياس مدى الاستقرار الداخلي وتعديل المسارات.
2. تنقية العلاقات: الابتعاد عن الروابط الاستهلاكية أو غير الصحية، والبحث عن علاقات مبنية على الاحترام المتبادل.
3. الالتحاق ببرامج متخصصة: تعلم مهارات الحزم، وضع الحدود، والوعي الذاتي، والاستفادة من أدوات علم النفس التطبيقي.
4. تفكيك معتقدات الطفولة: إعادة تقييم الأفكار التي ربطت قيمة الإنسان برضا الآخرين.
5. تعزيز التفكير النقدي: استخدام المنهج العلمي والعقل التحليلي في اتخاذ القرارات الشخصية والاجتماعية.
6. الاستثمار في الصحة النفسية: اعتبارها أصلًا اقتصاديًا واستراتيجيًا ينعكس على الأداء الفردي والمؤسساتي.
7. إعادة تعريف الحب: الحب مشاركة ونمو، لا تعويضًا عن نقص داخلي.
8. كتابة اليوميات: ممارسة تنظيم الأفكار وزيادة الوعي بالذات.
9. تنمية مهارات التفاوض: حماية النفس قانونيًا واجتماعيًا، وضمان الاستقلالية في العلاقات.
الإنسان لا يولد بقيمة ناقصة، لكنه قد ينشأ في بيئات لا تعرف كيف تمنح القيمة. التعلق السريع ليس ضعفًا، بل دعوة داخلية للعودة إلى الذات أولًا. وتقدير الذات مشروع إعادة إعمار داخلي، يشبه إعادة بناء الدول بعد الأزمات: بخطط، ومراحل، ومؤشرات، وجرأة في مواجهة الحقيقة. حين نمتلئ احترامًا لذواتنا، تصبح العلاقات اختيارًا لا هروبًا، والحب مشاركة لا تعويضًا، والحياة أكثر اتزانًا وعمقًا وإشراقًا.





