مقالات

محطات التأسيس: كيف تُصنع القرارات التي تبني الإنسان وتُعيد تشكيل المجتمع وتُرسّخ مستقبل الدولة

بقلم : د.محمد صلاح علي الفكي 

 

محطات التأسيس: كيف تُصنع القرارات التي تبني الإنسان وتُعيد تشكيل المجتمع وتُرسّخ مستقبل الدولة

صناعة القرارات المصيرية: وعيٌ يصنع الإنسان، ومسارٌ يبني المجتمع، وطريقٌ نحو التنمية المستدامة

إن صناعة القرارات المصيرية ليست حدثًا عابرًا، بل لحظة تأسيسية تصنع الإنسان، وتعيد تشكيل المجتمع، وتحدد الاتجاه الذي تسلكه الأمم نحو التنمية. فالقرار المصيري ليس بحجمه الظاهري، بل بأثره الممتد عبر الزمن وبما يخلّفه من نتائج على الفرد والمؤسسة والدولة. وقد علّمنا التاريخ الإنساني أن أعظم التحولات بدأت بقرار واحد صائب، اتُّخذ في لحظة وعي، وبعقل متزن، وببصيرة ترى ما وراء اللحظة.

وكان رسول الله ﷺ النموذج الأكمل في اتخاذ القرار المصيري؛ إذ كان يبني قراراته على الرؤية الواضحة، وتحليل الواقع، وحسن تقدير المآلات، والمشاورة مع أهل الخبرة، دون اندفاع أو رد فعل عاطفي. ففي الهجرة، وفي إقامة المجتمع المدني، وفي إدارة الدولة الأولى، وفي صلح الحديبية الذي بدا ظاهرُه تنازلًا، كان القرار نبويًا في حكمته، استراتيجيًا في رؤيته، ورساليًا في نتائجه؛ قرارات صنعت تحولات تاريخية وأطلقت طاقات الأمة. هذا المنهج النبوي ليس توظيفًا تاريخيًا، بل قاعدة عملية: القرار المصيري لا يصنعه الانفعال، بل تصنعه المعرفة والمشاورة وحساب الزمن ورؤية المصالح العليا.

وتنشأ القرارات المصيرية عبر خمس ركائز تشكّل جوهر العملية: المعرفة والتحليل والمشاورة والتوقيت والالتزام. فالمعرفة تمنح وضوحًا، والتحليل يصنع البدائل، والمشاورة تعالج النقاط العمياء، والتوقيت يحدد قيمة القرار، والالتزام يحوّل القرار من فكرة إلى أثر حقيقي. كثيرون يتخذون قرارات صحيحة، لكن قلّة فقط تملك القدرة على الالتزام، ومن هنا يتشكل الفرق بين قرار يبني وآخر يضيع.

وعلى مستوى الفرد، تصنع القرارات المصيرية الهوية والمسار. فاختيار التخصص، أو تغيير المهنة، أو بدء مشروع، أو اتخاذ قرار بالهجرة، أو دخول استثمار جديد، كلها ليست تفاصيل صغيرة، بل محطات تعيد تعريف الإنسان لنفسه وموقعه الاجتماعي ومستقبله المهني والاقتصادي. إن الفرد في جوهره هو حصيلة قراراته؛ يترقى حين يحسن الاختيار، ويتعثر حين يطيع ضغوطًا اجتماعية، ويتحرر عندما يمتلك شجاعة التغيير في الوقت المناسب.

ومن أهم القرارات المصيرية التي ترسم مستقبل الإنسان والمجتمع قرار الزواج؛ فهو ليس ارتباطًا عاطفيًا فحسب، بل تأسيس لبنية اجتماعية واقتصادية ونفسية تمتد أثرها على الأطفال وجودة الحياة واستقرار الأسرة. فالزواج الواعي القائم على التفاهم والقيم المشتركة يخلق أسرة قوية قادرة على مواجهة متغيرات الحياة، بينما يؤدي الزواج المتسرع أو القائم على ضغط اجتماعي إلى توتر ممتد يشمل الأسرة والمجتمع معًا.

وعلى مستوى المجتمع، تتراكم القرارات الفردية لتشكل ثقافة عامة، وتنعكس على نوع العلاقات داخل الأسرة، ومستوى الإنتاج، واحترام القانون، ونمط التفكير السائد. المجتمعات التي تُحسن صناعة القرار الواعي وتربّي أبناءها على التحليل والمشاورة تنتج أجيالًا قادرة على مواجهة الأزمات، بينما المجتمعات التي تُخيف أبناءها من القرار وتثقلهم بالتردد تنتج حلقات من الضعف والاضطراب مهما امتلكت موارد.

أما على مستوى التنمية المستدامة، فالقرار المصيري هو المحرك الحقيقي للتحول الوطني. فالدول لا تنهض بالشعارات، بل بقرارات استراتيجية في التعليم، والحوكمة، وتحسين الأداء المؤسسي، وتنويع الاقتصاد، ورقمنة الخدمات، وحماية الموارد، وتمكين رأس المال البشري. وهنا تبرز أهمية التنمية المتوازنة والمستدامة التي توزع الموارد بعدالة بين الإنسان والمكان والقطاعات، وتربط بين الحاضر والمستقبل، حتى لا تتقدم المدن بينما تتراجع الأرياف، أو يتحسن قطاع بينما ينهار آخر. التنمية المتوازنة ليست خيارًا رفاهيًا، بل شرطًا للاستقرار والعدالة والنهضة طويلة المدى.

وقد شهد العالم أن الدول التي تقدمت لم تكن أغنى الموارد، بل لكونها اتخذت قرارات جريئة محسوبة، مثل تجربة ماليزيا في الصناعة، وسنغافورة في الاقتصاد المعرفي، ورواندا في الحوكمة والتنمية البشرية. التنمية ليست أمنيات؛ التنمية قرار.

وتبرز أهمية القرار المصيري أكثر عند النظر في نتائجه. فالقرار الصحيح ينتج استقرارًا نفسيًا ومهنيًا، وتوازنًا أسريًا، ونموًا اقتصاديًا، وتحسنًا في جودة الحياة. بينما يقود القرار المتسرع أو العاطفي إلى خسائر مالية، اضطراب نفسي، تراجع في الأداء، وتوترات اجتماعية قد تمتد سنوات. وقد تقدّم الحياة أمثلة لا تنتهي: شاب يختار تخصصًا عن وعي فيحقق تميزًا، وآخر ينقاد لضغط اجتماعي فيخسر سنوات؛ رجل يستثمر بعناية فيضمن استقرارًا ماليًا، وآخر يشتري دون دراسة فيتورط قانونيًا؛ مؤسسة تقرر التحول الرقمي مبكرًا فتنقذ أداءها، وأخرى تؤجل القرار حتى تفقد قدرتها على المنافسة.

وهنا يتأكد أن القرار المصيري لا يتعلق بما نختاره فقط، بل بالطريقة التي نصنع بها الاختيار: هل جمعنا المعلومات؟ هل درسنا السيناريوهات؟ هل استشرنا أهل الخبرة؟ هل حسبنا التكلفة والعائد؟ هل اخترنا الوقت المناسب؟ وهل نملك القدرة على الالتزام؟ فهذه الأسئلة هي التي تحول القرار من رغبة إلى بناء.

ولأن إدارة القرار جزء من إدارة التنمية، فقد أصبح واضحًا عالميًا أن الفجوة الحقيقية ليست في غياب الأفكار أو المشروعات، بل في غياب النظام الذي يربط القرار بالتنفيذ. فالتنمية ليست نوايا حسنة، ولا ترتكز على الحدس والانطباعات، بل على بيانات دقيقة، وأدوات قياس، وسلسلة تشغيل واضحة تربط بين من يملك المعلومة، ومن يصنع القرار، ومن ينفذه، ومن يراجع أثره. وتجارب الدول الناجحة تثبت أن الإعمار والبناء لا ينهضان بالاجتهادات المتفرقة، بل بسياسة وطنية واحدة تنظم العلاقة بين الأمن والخدمات والاقتصاد والمجتمع، وتصنع إطارًا تنفيذيًا منسقًا يضمن عدم إهدار الجهود والresources. فالإعمار – في أي دولة – ليس معركة جدران تُشاد، بل معركة قرار يُبنى على معايير واضحة، وإدارة رشيدة، وهي لحظة نادرة في تاريخ أي أمة لإعادة تعريف المستقبل.

التوصيات:

1. ابدأ بالوعي الذاتي: فالقرار المصيري يقوم على فهم القيم والقدرات والهوية الشخصية.

2. احشد المعلومات من مصادر موثوقة، وابتعد عن العشوائية والانطباعات.

3. صِغ سيناريوهات متعددة، ووازن بين المكاسب والمخاطر.

4. استشر أصحاب الخبرة العملية وليس أصحاب الرأي العام.

5. ٩٠ تجنب اتخاذ القرارات في لحظات الانفعال أو الضغط أو الحماس الزائد.

6. اربط قرارك بهدف استراتيجي بعيد المدى، لا بمكسب سريع.

7. اختر التوقيت المناسب، فنجاح القرار مرتبط بزمنه بقدر محتواه.

8. اكتب خطة تنفيذ واضحة تتضمن مؤشرات قياس قابلة للتطبيق.

9. راجع نتائج قراراتك السابقة واستفد من التجارب لا من الأعذار.

10. احسم بعد التحليل، ثم التزم بما اخترت؛ فالتردد الطويل قرار مكلف.

القرارات المصيرية ليست لحظات عابرة، بل هي محطات تأسيس تصنع الإنسان، وتعيد تشكيل المجتمع، وتحدد قدرة الدولة على بناء مستقبل مستقر. وكل قرار واعٍ هو خطوة نحو إنسان أكثر قدرة، ومجتمع أكثر نضجًا، وتنمية أكثر رسوخًا. والقرار الحكيم يبدأ من وعي داخلي، ورؤية واضحة، ومعرفة دقيقة، ومشاورة صادقة، وتوقيت محكم، والتزام لا يتراجع أمام الصعوبات. فإذا أردنا بناء مستقبل أفضل، فعلينا أن نصنع قراراتنا بعقلٍ لا بعاطفة، وباستراتيجيةٍ لا بارتجال، وبوعيٍ ممتد لا بنظرة ضيقة. فالمستقبل في جوهره ليس ما يأتي إلينا، بل ما نصنعه نحن بقراراتنا.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى