مقالات

ومضة الجمعة: دروس من عبقرية مكتشف معزوفة الحياة

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

ومضة الجمعة: دروس من عبقرية مكتشف معزوفة الحياة

• رحل الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 97 عاماً العالم الأمريكي جيمس واتسون، مكتشف بنية الحمض النووي (DNA)، تلك المادة الوراثية التي أودع الله فيها سر الحياة، وجعل الكائنات الحية ترقص على أنغامها منذ بدء الخليقة.

• وقد نال واتسون، مع زميلين آخرين، جائزة نوبل عام 1962 لاكتشافهم بنية الـ DNA، وفهمِ لغة الحياة على المستوى الجزيئي لأول مرة.

• قبل ذلك كان ما ألهم واتسون وقاده لاكتشافه التاريخي هذا، ملاحظة بسيطة، هي بما أن البكتيريا غالبًا ما تأتي في أزواج، ذكرًا وأنثى، فخطر له أن انتقال الصفات الوراثية قد يشبه أيضاً ما لدى الكائنات الأعلى التي تتكاثر في أزواج كذلك، وكما قال تعالى: “وخلقناكم أزواجًا”.

• وكانت تلك الملاحظة الشرارة الأولى التي مهدت لاكتشاف أن المادة الوراثية تتخذ شكل الحلزون المزدوج، ذلك السلم اللولبي الذي يحمل المعلومات الوراثية وينقلها بين الأجيال.

• وتدلنا قصص أخرى على أن العلم ليس وحده مصدر المعرفة؛ فأحيانًا تشعل الأحلام (أو مدارس الليل كما يسمونها) الشرارة الأولى للاكتشاف.

• فقد رأى الكيميائي كيكول تركيب البنزين كحلقة سداسية في حلم، وبدأ اكتشاف حجر رشيد، مفتاح فك رموز الهيروغليفية، أيضًا برؤية، ورأى سادتنا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، صيغة الأذان في حلم متوازٍ.

• كما يوضح عالم النفس كيث أوتلي في كتابه فيما يشبه الأحلام (Such Stuff as Dreams)، فإن بعض ما نعرفه اليوم، ونراه في الميكروسكوب أو التليسكوب، أو نقرأه في الأدب والشعر، كان مصدره في الأصل إلهامًا أو رؤيا.

• وقد اعتبر علماءُ المسلمين الأقدمون، كابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون، أن الرؤى الصادقة بابٌ لمعرفهٍ تتجاوز الحواس والعقل، وتشبه بعض ما يُكشف للنبي من الغيب.

• فكما يُكشف للنبي بعض الغيب، يمكن أن ينال الآخرون معرفةً مماثلة عبر الرؤى الصادقة.

• ومن هنا يأتي الدرس الأول: أن لمصادر المعرفة وجوهًا متعددة، وأن باب الاكتشاف لا يقتصر على المختبر وحده؛ فالإلهام والرؤيا قد يفتحان من الفهم ما لا تفتحه الأدوات.

• أما الدرس الثاني فهو أن العبقرية لا تنتظر العمر؛ فالإبداع غالبًا ما يطل في بدايات الشباب. اكتشف واتسون بنية الـ DNA في الخامسة والعشرين، وابتكر الطفل الفرنسي باسكال بعض القوانين الرياضية في الثالثة عشرة، ووضع شاندرا سيخار نظريته عن الثقوب السوداء في الحادية والعشرين، وقدم آينشتاين نظريته النسبية في السادسة والعشرين.

• وقال النبي عبيه الصلاة والسلام “نُصرت بالشباب”. فالشغف حين يشتعل في عقل شاب، قد يفتح آفاقًا لا حد لها.

• ويأتي الدرس الثالث ليُذكر بأن الإنجاز العلمي لا يعني الحكمة المطلقة. فعلى الرغم من اكتشاف واتسون التاريخي، فقد ارتبط اسمه بجدل واسع حول تصريحاته المتعلقة بالعرق والذكاء، خارج نطاق البحث العلمي.

• متجاهلاً بذلك حقيقة أن الفروقات الوراثية بين البشر ضئيلة جدًا؛ إذ إن نحو 85% من التنوع الوراثي يوجد بين الأفراد داخل العرق الواحد، بينما لا تتجاوز الفروق بين الأعراق المختلفة 7–8%.

• هذا يعني أن الاختلاف بين أفراد المجموعة العرقية الواحدة أكبر بكثير من الاختلاف بين المجموعات العرقية المختلفة.

• وأكدت دراسات وتجارب، مثل تجربة ريتشارد ليونتين في كتابه “مذهب الـ DNA: علم الأحياء كعقيدة”، التي أُجريت على أطفال سود وبيض في ملاجئ بريطانية، أن فروقات الذكاء بين المجموعتين كانت صغيرة جدًا، بل إن الفروقات البسيطة غير المعنوية كانت أحيانًا لصالح الأطفال السود.

• ومذا ما أخبر به عليه السلام “لا فضل لعربي على أعجمي… ولا لأحمر على أسود… إلا بالتقوى”.

• ويأتي الدرس الرابع ليُبين أن العلم يحتاج إلى بصيرة وحكمة؛ فالأثر العلمي لا يقتصر على المختبر، بل يمتد إلى فهم الحياة وعلاقاتها المتشابكة.

• قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ الإسراء 36، أي لا تتبع ما لا تعلم حقيقته أو عاقبته. وفي ذلت السياق أسس سلطان العلماء، العز بن عبد السلام، مبدأ “اعتبار المآلات”، أي النظر في نتائج الفعل قبل الحكم عليه، وهو ما نعرفه اليوم بأخلاقيات العلم (ethics of knowledge).

• وأما الدرس الخامس والأخير فهو أن العلم بلا تواضع قد يتحول إلى عبء على صاحبه. فمع أن واتسون فكّ بعض رموز “معزوفة الحياة”، إلا أن غروره العلمي ومواقفه المتعالية جرّت عليه انتقادات حادة، حتى سُحبت منه بعض الأوسمة.

• وتبقى الحقيقة الكبرى: أن سرّ الحياة أعظم من أن يختزل في معادلات كيميائية أو جزيئية.

• قال تعالى: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”.

• فإذا اقترن العقل بالإيمان، أضاء طريق المعرفة وأثمر إنسانية تُسعد ولا تستبد.

جمعة مباركة

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى