
البيئة تبدأ من الإنسان
• في سجل النقاشات الكبرى التي تشكل وعي الأمم، هناك لحظات لا تصنع بالضجيج، بل بالوضوح الأخلاقي المباغت.
• هي لحظات تنسحب فيها البلاغة، ويعلو فيها صوت الحق وحده.
• فتتبدد مساحة المناورة، ولا يبقى للخصم إلا الصمت.
• تلك اللحظات يسميها البعض “”الضربة الحُجّية القاضية knock out argument”، أو لحظات “قلب الطاولة”.
• وقد عرفت البشرية كثيراً من هذه المواقف.
• كلمات قليلة أسقطت أسوار القوة، وأعادت رسم حدود الوعي.
• وأثبتت أن الشعوب التي تحتفظ في عمقها بحس أخلاقي لا تُهزم مهما تعثرت.
• في الجلسة الأخيرة لوزراء البيئة العرب بموريتانيا برز مشهد من هذا النوع. فعندما طُلب من ممثل السودان حصر مداخلته في “موضوع البيئية”، وتجنب ذكر الإنسان وحقوقه، جاء الرد: الإنسان هو جوهر البيئة ومحورها، ولا معنى للحديث عن البيئة بمعزل عن صون حياة الإنسان وكرامته وحقه في العيش فيها.
• كان الرد حاسماً ومعبرا وبسيطاً في صياغته، عميقاً في دلالته. وباسلوب “قلب الطاولة”.
• لقد أعاد تعريف الموضوع في لحظة واحدة: حماية البيئة تبدأ من حماية الإنسان، وتنتهي عنده.
• البيئة ليست مشاهد خضراء، أو ملفات تقنية، وهي ليست خارج الإنسان بل نسيج وجوده نفسه، وإطار وجوده كله.
• من ينسى أصله من تراب يضل وجهته ويقود الأرض وذاته نحو الخراب.
• فكل فقدٍ للأرواح أو انهيارٍ اجتماعي هو في جوهره تدهور بيئي.
• لقد قدمت الفلسفات البيئية الحديثة، وعلى رأسها “أخلاقيات الأرض”، رؤية تعيد تعريف المجتمع ليشمل الإنسان والكائنات والتربة والماء والهواء في منظومة واحدة.
• فلا مكان لمنطق الفصل بين الطبيعة والإنسان؛ لأن سقوط أي طرف يعني انكسارًا للكل.
• ولعل على الفضاء العربي أن يلتقط هذه اللحظة باعتبارها دعوة لمراجعة مفهومه للبيئة.
• من يفصل الإنسان عن الماء والتربة والأمن لا يحمي البيئة؛ بل يفرغها من معناها.
• إن كلمة السودان لم تكن اعتراضًا بروتوكوليًا، بل استعادة لبوصلة أخلاقية غابت طويلًا.
• إنها تذكير بأن البيئة ليست ملفًا ثانويًا يُزاحم أجندة التنمية، بل شرطها الأول.
• البيئة قضية مصير لا ترفًا تجميليًا، والإنسان هو بوصلتها وغايتها وحارسها.
• وحين يسطع الحق في لحظة كهذه، لا يحتاج إلى صخب ولا إلى جلبة؛ يكفيه أن يكون حقًا.
• وهكذا جاء صوت السودان في موريتانيا: ثابتًا، نظيفًا، وواثقًا.
• لم يتحدث عن غابة أو نهر فقط، بل عن الإنسان — البداية والغاية، والمستحق الأول للحماية.
• صوت يذكر بأن الأمم لا تُبنى بالشعارات، بل بالمعاني التي تحفظ كرامة الناس وأرواحهم.
• وهي لحظة صغيرة في ظاهرها، كبيرة في معناها.
• لحظة لا تغير مسار جلسة فحسب، بل تعيد ترتيب الفكرة في الوعي، وتشعل جذوة أمل في زمن يشتد فيه الظلام.
• فكثير من الكلمات المخلصة غيرت مجرى التاريخ… وهذه واحدة منها.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.





