أخبار

نبض الجزيرة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

نبض الجزيرة

كان البحر هادئًا في ذلك الصباح، كأنه يُخفي في أعماقه سرًا قديمًا ينتظر لحظة انكشافه.

تشقّ سفينة ضخمة الموجَ برحلتها الطويلة، تحمل على متنها بشرًا من كل لون ولسانٍ وعمر — أطفالًا يضحكون، وشبابًا يلتقطون الصور، وشيوخًا يستعيدون ذكرياتهم، ونساءً يتحدثن عن الوطن والحلم والغد.

لكنّ البحر، كما الحياة، لا يُؤتمن صفاؤه.

في لحظةٍ، تغيّر وجهه، واشتدّ غضبه، وتكاثفت السحب فوقه كأن السماء انحنت على الماء لتشهد مأساة الولادة الجديدة. ارتفعت الأمواج، تكسّرت الأشرعة، وارتجّت السفينة في عتمة العاصفة، ثم صمت كل شيء… إلا أنين الخشب المبلول وصوت النجاة يختلط بدعاءٍ خافتٍ يتشبث بالحياة.

وحين بزغ الفجر، كانت جزيرة خضراء ساحرة تمتد أمام الناجين. جزيرة بلا بشر، بلا طرق، بلا أصوات سوى هدير البحر ورفرفة طيور البحر الأبيض.

نجا الجميع — مختلفو الأوطان والأديان والألسن — وتفرّقوا على الشاطئ بين مدهوشٍ وحامدٍ وباكٍ وصامتٍ.

في البداية، كان كلٌّ يتحدث بلغته، فلا أحد يفهم الآخر، حتى نظراتهم كانت غريبة كأنها حروف غير مترجمة.

لكنّ الحاجة علّمتهم لغة البقاء، وعلّمهم الجوع كيف يتشاركون، والعزلة كيف يتقاربون.

اصطادوا السمك، وأوقدوا النار، وبنوا من فروع الشجر مساكن بسيطة تقيهم الرياح.

ومع مرور الأيام، نبضت الجزيرة بالحياة؛

تحولت الأكواخ إلى بيوت صغيرة، وتحوّل الصمت إلى لغة مشتركة من الإشارات والابتسامات، وصار بينهم تفاهم واحترام، وولدت من رحم العزلة مدينة صغيرة عنوانها التعايش والبساطة.

مرت سنوات، نسوا العالم ونسيهم، حتى ظنوا أنهم آخر البشر.

حتى جاء يومٌ اقترب فيه زورق حديث يلمع تحت شمس البحر، يعمل بالطاقة الشمسية ويتحوّل إلى طاقة الرياح إذا هدأت الأنفاس.

كان يقوده رحّالة مغامر يجوب البحار بحثًا عن المجهول، فتفاجأ حين لمح من بعيد بيوتًا ودخانًا يتصاعد من جزيرةٍ لم تُسجل في أي خريطة.

اقترب منهم، فكان أول إنسانٍ من العالم الخارجي يراهم منذ سنين.

في البداية وجد صعوبة في التواصل معهم، لكنّ الصدق أبسط اللغات، ففهموه بقلوبهم قبل ألسنتهم.

بقي بينهم، أحبّ واحدة منهم، وتزوجها، وصار جزءًا من ذلك المجتمع الطيب.

لكنه أيضًا ربطهم بالعالم من جديد، فتح لهم نافذة على الحضارة، وجعل التكنولوجيا تصل إلى شواطئهم.

تغيّرت الحياة — السكن أصبح أوسع، والملابس أجمل، والطعام متنوعًا.

لكنّ بعضهم بدأ يحنّ إلى تلك الأيام البسيطة التي كان فيها السمك قوتهم والبحر صديقهم، إلى تلك البساطة التي كانت تمنحهم صفاء القلب وصدق الوجدان.

فهموا متأخرين أن السعادة ليست في ما يملكون، بل في ما يكونون.

وفي ليلةٍ هادئة، حين أطلّ القمر على الجزيرة، جلس الرحّالة على الشاطئ ممسكًا بيد زوجته وقال لها:

> “وليلٌ أناره القمرُ، وإذا سألتِ عن مذاق الفرح، قلتُ: نظرةٌ من عينيكِ.

وإن سألتِ عن أجمل الأوطان، قلتُ: هو قلبكِ.

وحين أتيتِ، صار الليل فاتنًا، ينيره حضوركِ ويجمّله هواكِ.”

ومنذ ذلك الحين، أصبحت الجزيرة تنبض بالحياة الثالثة — لا حياة البقاء ولا حياة التمدّن، بل حياة الاتزان بينهما.

صار صيد السمك هوايتهم المفضلة، لا من أجل الطعام، بل من أجل الفرح والسكينة؛ يصطادون السمك ويعيدونه إلى البحر كما لو أنهم يحيّونه ويشكرونه على ما منحهم من دروسٍ في الحياة.

يقضون ساعات طويلة على الساحل، يضحكون ويتأملون غروب الشمس، وقد أدركوا أخيرًا أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يتصالح مع ذاته والعالم من حوله.

وهكذا، نبضت الجزيرة بالحياة مرتين، ثم بثالثةٍ أعمق —

حين وُلد فيها الوعي بأن أجمل ما في الإنسان هو قدرته على أن يبدأ من جديد.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى