
جمال السودان وأهله: فلسفة العطاء في وجه الحياة
يمتاز الإنسان السوداني بخصال قلّ أن تجتمع في غيره؛ فهو كريم النفس، شجاع القلب، نقيّ السريرة، شديد الارتباط بجماعته، يرى في العطاء قيمةً لا مجرّد فعل. حين تشتدّ النوائب، يخرج النفير، ويهبّ الناس صفًّا واحدًا؛ من يملك المال يبذله، ومن يملك الجهد يقدّمه، ومن لا يملك إلا الكلمة الطيبة يجعلها عزاءً ودعماً لمن حوله. تلك الروح الجمعية التي تراها في مشهدٍ بسيط على شاطئ البحر عندما “يترس” السودانيون معًا، أو في قراهم حين يجتمعون لرفع ضررٍ أو بناء بيتٍ أو دعم محتاج — هي جوهر الجمال السوداني الأصيل.
السوداني حين يهاجر لا يتحول إلى أنانيٍّ يبحث عن ذاته، بل يظل يحمل وطنه في قلبه ووجعه في جيبه. إذا وُسّع عليه في الرزق، تحمّل أعباء من حوله، وكأنه رسول التكافل. يعيل فقيرًا، يكفل يتيمًا، يسند أرملة، ويواسي مريضًا، لأن فطرته لا تعرف الانفصال عن الآخرين.
وقد تجلّت هذه الروح في الغربة بصورة مدهشة. ظهرت الجمعيات السودانية في شتّى الدول، تستضيف القادمين الجدد بحثًا عن علاجٍ أو عملٍ أو مأوى. كم من موقفٍ مؤثر سُجّل هناك؛ أحد السودانيين وجد مريضًا لا يعرفه، تكفّل بعلاجه وإقامته ودوائه دون سؤالٍ أو معرفةٍ سابقة. وعندما سُئل: «هل بينك وبينه صلة؟» قال ببساطة: «يكفيني أنه سوداني».
هكذا هم، يتقابلون في الغربة وكأنهم إخوة منذ سنين، يتسابقون في المطاعم لدفع الفاتورة، ويتنافسون في البذل وكأن السعادة في العطاء لا في الأخذ.
السوداني يحب أن يعطي لا أن يتلقى، ويقدّر “الملح والملاح” رمز العشرة والوفاء، ويحترم النسب والروابط الاجتماعية بقداسة فطرية. يقولون في المثل: «التسيب عين شمس، واخد بنت الرجال البرقعوا المقدودة يعشولك جناك إن تمت المعدودة» — وهي فلسفة اجتماعية تُعبّر عن الأصالة واحترام النسب والعهود.
يضرب بالسوداني المثل في الوفاء والأمانة؛ فمهما قدمت له من إغراء، لا يخون من ائتمنه أو شاركه المال. حتى الملوك وأصحاب النفوذ وثقوا في السودانيين وأمنوهم على حياتهم، لما عُرفوا به من صدقٍ واستقامة. وقليل منهم من يخرج عن هذه القيم، فلكل قاعدة شواذ، لكن الغالبية العظمى ظلّت متمسكة بمروءتها وأصالتها وتحافظ على الأسرة الممتدة كأصلٍ للحياة الاجتماعية.
وفي شهر رمضان، يتجلّى هذا السمو الإنساني في أبهى صوره؛ يخرج الناس إلى الشوارع حاملين طعامهم وشرابهم ليفطر معهم المارة والمحتاجون. تُغلق الطرق لا لأنهم يقطعونها، بل لأنهم يقطعون الجوع عن عابرٍ أو غريب. وإن دُعيت للإفطار، ستجدهم يستوقفونك في الطريق بإلحاحٍ جميل حتى تفطر معهم — فالإيثار هنا ثقافة لا طقوس.
من منظور علم النفس والاجتماع، هذه القيم تمثل شبكة أمان نفسي واجتماعي تحفظ المجتمع من الانهيار في الأزمات، وتبني الثقة الداخلية التي تفسر قدرة السودانيين على الصمود في وجه الفقر والحرب والتشرّد. أما من الناحية الاقتصادية والإدارية، فإن هذا التعاون الفطري هو ما يُسمّى بـ رأس المال الاجتماعي الذي تعتمد عليه الأمم الناهضة في إعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
وفي البعد الاستراتيجي، يمكن النظر إلى التكافل السوداني كنموذجٍ تنموي أصيل — لا يعتمد على الدولة بقدر ما يعتمد على الإنسان وقيمه. فالشعوب التي تملك مثل هذا النسيج الاجتماعي لا تُهزم بسهولة، لأنها تملك قوة الترابط الداخلي التي لا يستطيع العوز أو التفكك أن يهدمها.
ويظل السوداني في الغربة متمسكًا بقيمه الدينية والأخلاقية والثقافية؛ لا ينصهر في المجتمعات الغربية أو غيرها، ولا يقبل أن يُفرض عليه أي سلوك يعارض دينه أو ثقافته. يرفض الإباحية وتعاطي المخدرات والخمر، ويحافظ على تربية أبنائه ونسائه وفق عادات وتقاليد أصيلة، بينما يقبل السلوك الحضاري والعلم والعمل، ويتفوق في الطب والهندسة والقانون والإدارة والتعليم، ويعمل أساتذة وموظفين في أرقى الجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة حول العالم.
إن السوداني، في جوهره، مدرسة إنسانية مفتوحة: يجمع بين الكرم والمروءة، بين الحياء والشجاعة، بين الإيمان والصبر. وإذا كان العالم اليوم يبحث عن مؤشرات السعادة والرفاه في الأرقام، فإن السودان يحتفظ بسعادته في القلوب، في تلك اللحظة التي تمتد فيها يد لمساعدة محتاج، أو في بسمةٍ تُرسم رغم ضيق العيش.
توصيات:
1. تعزيز قيم التعاون والتكافل المجتمعي ضمن مناهج التعليم والتدريب.
2. إنشاء صناديق أهلية للتكافل المهني والاجتماعي لدعم الفقراء والمحتاجين.
3. توظيف روح النفير في مشروعات التنمية المحلية والبنية التحتية.
4. تحفيز عودة المهاجرين بخبراتهم ورؤوس أموالهم للمشاركة في بناء السودان الجديد، ضمن رؤية وطنية تشجع الاستثمار المعرفي والمهني.
فشعبٌ بهذه الروح لا يمكن أن يجوع، ولا يُهزم، ولا تكسره الأزمات — لأنه باختصار، حين يشتدّ المطر، تشرق شمس الفرح في قلوبه، ويظل متمسكًا بقيمه، عابراً الحدود، ناجحًا في العلم والعمل، وراسمًا صورة السودان الحقيقي في كل مكان.








