مقالات

حين سكنت الحكمة الغابة

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

حين سكنت الحكمة الغابة

• الأسطورة حكاية رمزية قديمة تفسّر المجهول وتعبر عن فهم الإنسان الأول للعالم.

• ولعل الكثرين يذكرون حكاية الإله باخوس الذي أراد أن يكافئ الملك الطيب ميداس على صنيعٍ أسداه له. فخيّره أن يحقق له أي أمنية شاءها.

• لم يتردد ميداس، الذي كان يرجو سعادة شعبه، في أن يطلب أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب.

• استجاب باخوس لرغبته، لكن الهبة ما لبثت أن انقلبت لعنة؛ إذ وجد الملك نفسه يتضور جوعًا، بعدما صار حتى طعامه يلمع ذهبًا بين يديه قبل أن يصل إلى فمه.

• عندها رفع ميداس كفيه ضارعًا إلى باخوس أن يرفع عنه الغمة، فاستجاب له الإله هذه المرة أيضًا، لتبقى حكايته عبرةً خالدة في أن الخير إذا خلا من الحكمة، انقلب شرًّا مضاعفًا.

• ولم تنتهِ القصة عند هذا الحد؛ إذ يروي أن الملك ميداس، وقد أدرك مأساة الذهب الذي كاد يهلكه، قرر أن يلتمس الحكمة في الطبيعة.

• فاختار أن يصاحب الإله بان، إله الغابات والمراعي، عساه يجد في خضرتها ما يحمي شعبه من الجوع والحزن والتعاسة.

• ربما لا تعدو أسطورة ميداس أن تكون مرآةً لما نعيشه اليوم؛ إذ ما زال بريق الذهب يسطو على القلوب والعقول في عصرٍ ظن الناس فيه أنهم تجاوزوا زمن الأساطير.

• ويروي الإغريق أيضًا أنه قبل أن تُعرف عاصمتهم باسم أثينا، استيقظ سكانها ذات صباح على مشهدٍ عجيب: شجرة زيتون ضخمة نبتت فجأة من باطن الأرض، وعلى مقربةٍ منها تفجّر نبع ماء غزير.

• أدرك الناس أن في الأمر سراً إلهياً، فأفتى العرّافون بأن الشجرة تمثل الإلهة أثينا، رمز الحكمة والحرب وحامية المدينة، وأن النبع يمثل الإله بوسيدون، رب البحر، وأن على أهل المدينة أن يختاروا بينهما اسمًا لمدينتهم.

• صوت الرجال لبوسيدون، والنساء لأثينا، وكانت الغلبة للنساء، فحملت المدينة اسم الإلهة الحكيمة.

• لكن بوسيدون غضب، فغمر الأرض بمياهه المالحة فأفسد تربتها، ولتهدئته فرض الرجال ثلاث عقوبات على النساء.

• حرمانهن من التصويت، ومن نسب الأبناء إليهن، ومن حمل لقب الأثينيات.

• وهكذا انتهت الأسطورة بأول انقلابٍ على الديمقراطية في التاريخ الإنساني، حين انتصرت الحكمة أولًا، ثم غلبها الغضب والسلطة.

• لكن حكايات تقديس الطبيعة والحكمة لم تقتصر على الإغريق وأهل أثينا؛ فقد تجلّت أيضًا في ثقافات شعوب أخرى.

• فالصينيون مثلاً يرون أن القمر موطن الإلهة الجميلة “جانق”، زوجة رامي القوس العظيم “هو وي”، الذي أنقذ الأرض بإسقاط تسع شموسٍ من عشرٍ كادت تحرقها.

• لكن “هو وي” انقلب طاغية، فسرقت “جانق” منه قرص الخلود وابتلعته، وصعدت بها إلى القمر حيث تحولت إلى ضفدعةٍ بثلاثة أرجل تسكن قصرًا تظلله شجرة قرفة تنمو بلا انقطاع، ويقوم الإله الحطّاب “ويق أنق” بتشذيبها كي لا تحجب ضوء القمر عن الأرض.

• وتجلّت الحكمة التي تسكن الغابة في ثقافات أخرى من آسيا وإفريقيا، إذ ظل الإنسان يرى في الطبيعة مرآةً للقداسة والمعنى.

• وهكذا، أدرك الإنسان — عبر الحكمة التي تسكن الغابة — أن الذهب لا يُطعم، وأن القوة بلا عقل تفسد، وأن الخلاص في الإصغاء إلى صوت الطبيعة حين تهمس بالمعنى.

تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى