مقالات

حين أزهرت الصخور

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

حين أزهرت الصخور

لم تكن القرية تعرف معنى الفرح منذ زمن. كانت البيوت صامتة كالأحجار، والطرقات ممتدة بين حقول ذابلة لا تسمع فيها سوى أنين الرياح. قال الشيوخ إن الأرض سئمت من الدعاء الذي لا يرافقه عمل، وإن النهر الذي كان يغسل الهموم قد انكمش من الحزن.

في تلك الأيام، كان “سالم” شابًا هادئًا لا يملك شيئًا سوى حلمه بأن يرى قريته خضراء من جديد. كان الناس يسخرون منه حين يحدثهم عن الأمل، فيقولون: “حتى الصخور هنا بكت، فكيف ستزهر؟”. لكن سالم كان يرى ما لا يرونه؛ كان يؤمن أن في كل حجر قلبًا ينتظر من يطرق عليه بالإصرار لا باليأس.

في صباحٍ باكر، حمل معوله وخرج إلى الجبل. لم يكن يسعى وراء الذهب، بل وراء قطرة ماء واحدة يمكن أن تروي أرضه. وكلما ضرب الصخر، تذكّر قول أبيه الراحل:

“فقطرة ماءٍ مراراً تدقُّ على الصَّخر حتى تشقُّ الصّخر…”

مرت الأيام ثقيلة، ويداه تنزفان من الجهد، لكن قلبه يزداد صلابة وإشراقًا. سخر منه القوم وقالوا:

“تريد أن تُخرِج الورد من الحجارة؟ لقد جُنّ الفتى!”

لكنه أجابهم مبتسمًا:

“ربّما… ولكن الجنون الذي يحمل الأمل خير من العقل الذي يعبد العجز.”

وفي ليلةٍ مظلمة، هبت عاصفة هوجاء، فاهتزّت القرية بأكملها، وسقطت الأشجار الضعيفة التي كانت تتجمّل دون أن تثمر. أمّا جذور سالم التي غرسها بعرقه، فقد تماسكت، وحين انقشع الصباح، خرج الضوء من بين الصخور: كانت هناك ينبوع ماء صغير يتلألأ كعين الفجر.

تجمّع الناس حوله، صامتين أول الأمر، ثم بدأ الأطفال يضحكون، والنساء يملأن الجرار، والشيوخ يبكون.

قال أحدهم:

“ظننا أن الصخر لا يلين، فإذا به يلد الحياة!”

تحولت القرية إلى واحة، وتعلّم الناس أن الجمال ليس في القوام، بل في العطاء، وأن الوعود لا تثمر ما لم تُسقَ بالفعل. رأى سالم في وجوههم شيئًا لم يره من قبل: روح المشاركة والانتماء. صار كل بيت حديقة، وكل يد تبني لا تهدم.

وحين اجتمعوا في الساحة الكبرى بعد عام، رفع سالم صوته قائلًا:

“لقد كانت الصخور فينا نحن، لا في الجبل. واليوم حين تشققت قلوبنا، خرج منها النور!”

صفق الجميع، وغنت الطيور التي عادت إلى القرية.

وفي ذلك المساء، حين غربت الشمس على وجه الماء، أدرك سالم أن المغامرة لم تكن ضد الطبيعة، بل ضد اليأس. وأن أعظم الانتصارات لا تُقاس بالمعارك، بل بقدرة الإنسان على أن يزرع الأمل في أرضٍ قاحلة، ويجعلها تضحك من جديد.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى