مقالات

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

خارطة الطريق للإدارة الاستراتيجية الحديثة: من الانغلاق المؤسسي إلى التحول الإداري والرقمنة

في عالم الإدارة الحديثة، لم يعد التحدي في وفرة الموارد، بل في كفاءة إدارتها، ومرونة المؤسسات في التكيف مع التحولات المتسارعة، وقدرتها على تحويل الخطط إلى واقع تنفيذي فعّال. فالمؤسسات التي تُدار بعقل جامد تفقد قدرتها على الاستجابة، بينما المؤسسات التي تتبنى التفكير الاستراتيجي والتحليل المنهجي تصنع مستقبلها بوعي وتوازن واستدامة.

إن خارطة الطريق للإدارة المعاصرة تبدأ من التحول في الثقافة قبل الهياكل، ومن تطوير المنهج قبل الأشخاص. فالإدارة الفاعلة هي التي تستبدل ثقافة الجمود بثقافة المبادرة، وتحوّل الممارسة الإدارية من تسيير الأعمال إلى قيادة التحول. وهذه النقلة لا تتحقق إلا عبر منظومة متكاملة تجمع بين التخطيط الاستراتيجي، والتحول الرقمي، والحوكمة المؤسسية، وإدارة الموارد البشرية الاستراتيجية.

أولاً: من الانغلاق المؤسسي إلى الحركية التنظيمية

يبدأ الانغلاق حين تتحول اللوائح إلى عوائق بدل أن تكون أدوات، وحين تغيب المراجعة الدورية للأداء، ويتوقف التعلم المؤسسي. فالمؤسسة التي لا تُعيد النظر في خططها تفقد القدرة على التطوير، ويغدو الاستقرار فيها مرادفًا للركود. أما المؤسسات الناجحة فهي التي توازن بين الثبات في المبادئ والمرونة في الوسائل، وتحوّل التحديات إلى فرص للتعلم والتحسين.

التجارب الدولية تؤكد أن التغيير الفعّال يبدأ من الثقافة المؤسسية. ففي سنغافورة، تم تأسيس مفهوم الإدارة المتعلمة القادرة على مراجعة سياساتها بانتظام. وفي رواندا، اعتمدت الدولة نهج الإدارة القائمة على النتائج (RBM) لتجاوز آثار الصراع، فصارت الشفافية والمساءلة ثقافة وطنية. وفي قطر والإمارات، استند التحول الإداري إلى رؤى وطنية طويلة المدى تُترجم إلى مؤشرات أداء واضحة تخضع للقياس والمراجعة الدورية.

ثانياً: التحليل والتخطيط كأدوات ديناميكية للإصلاح

التفكير الاستراتيجي ليس ترفًا تنظيريًا، بل هو أداة تحليل واستشراف تُمكّن المؤسسة من فهم بيئتها وتحديد أولوياتها. والإدارة التي تمتلك أنظمة تحليل (SWOT – PESTEL) ومؤشرات أداء متوازنة (Balanced Scorecard) قادرة على التنبؤ بالمخاطر وصناعة القرار بناءً على الأدلة.

في التجربة السودانية، تكمن الأزمة في فصل التخطيط عن التنفيذ، حيث وُضعت استراتيجيات وطنية رائدة مثل الاستراتيجية ربع القرنية (2007–2031م)، لكنها لم تتحول إلى مسار تنفيذي بسبب غياب التنسيق الأفقي والرأسي وضعف المتابعة. المطلوب اليوم هو بناء حلقة متكاملة للتخطيط والتنفيذ والتقويم، قائمة على المتابعة المستمرة والتحليل الزمني للنتائج.

ثالثاً: الإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية

إن المورد البشري هو محور الكفاءة المؤسسية، وأي إصلاح لا ينطلق منه يظل جزئيًا. فالانتقال من إدارة الموارد البشرية إلى الإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية (SHRM) يعني ترسيخ فكر الشراكة في القرار، وتحويل وحدات الموارد البشرية من مكاتب خدمية إلى مراكز خبرة استراتيجية.

هذا التحول يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمؤسسة: فالموظف ليس أداة تنفيذ، بل حامل للمعرفة والإبداع. والإدارة التي تمكّنه بالثقة والتدريب والتقدير تحقق ولاءً مستدامًا وأداءً عاليًا. وتُظهر المدارس الإدارية الحديثة أن القيادة الفعّالة تقوم على التمكين، والتحفيز القيمي، وإدارة الأداء بالنتائج لا بالأوامر.

رابعاً: التحول الرقمي والحوكمة الإلكترونية

الرقمنة تمثل البعد الجديد في تطور الإدارة العامة، إذ لم تعد تقنيةً مساعدة، بل ركيزةً للتخطيط والتحليل واتخاذ القرار. فأنظمة الحكومة الإلكترونية والتحول الرقمي المؤسسي ترفع كفاءة الأداء وتحدّ من الهدر وتُعزّز الشفافية.

تُظهر تجارب الدول المتقدمة أن التحول الرقمي الذكي يقوم على ثلاثة أسس:

1. تكامل البيانات بين القطاعات عبر أنظمة مركزية موحدة.

2. تحليل الوقت الحقيقي للقرارات من خلال الذكاء الاصطناعي.

3. حوكمة إلكترونية فعّالة تُقلص البيروقراطية وتزيد الإنتاجية.

وفي السياق السوداني، يمثل التحول الرقمي فرصة تاريخية لإعادة بناء الجهاز الإداري بعد الحرب، عبر إنشاء قواعد بيانات وطنية، وتفعيل نظم الموارد المؤسسية (ERP) ونظم الموارد البشرية (HRMIS)، وربطها بمؤشرات الأداء القومي لضمان التناغم بين الدولة والقطاعات.

خامساً: الحوكمة المؤسسية والمساءلة الذكية

إن الحوكمة ليست آلية رقابية فحسب، بل منظومة لضبط الأداء وضمان الاستدامة. فالمؤسسة التي تعتمد على الشفافية والمساءلة تحقق الثقة العامة وتكسب الشرعية المؤسسية.

تطبيق معايير الحوكمة الحديثة مثل OECD وISO 37000 يعزز الثقة ويحد من المخاطر، ويجعل اتخاذ القرار مبنيًا على القيم والكفاءة معًا. الحوكمة المؤسسية تُعيد التوازن بين الصلاحيات والمسؤوليات، وتجعل من التقييم الداخلي جزءًا من دورة الأداء لا إجراءً شكليًا.

سادساً: توصيات 

1. إنشاء مجلس وطني للتخطيط والتنفيذ: يضمن الاتساق بين الخطط الوطنية والقطاعية.

2. اعتماد دليل إرشادي للتنفيذ: يوضح الأدوار والمواعيد والمعايير لضمان التحول من الخطة إلى الفعل.

3. تبنّي التحليل المؤسسي المستمر: مراجعة الخطط كل ثلاث سنوات وفق متغيرات البيئة الداخلية والخارجية.

4. تطوير نظم المعلومات الإدارية: لبناء قرارات مبنية على بيانات لا على الحدس.

5. ترسيخ ثقافة الأداء القيمي: دمج النزاهة والمسؤولية الاجتماعية في تقييم الأداء.

6. تسريع التحول الرقمي: بربط المؤسسات الحكومية بأنظمة رقمية موحدة ومؤشرات أداء لحظية.

7. تمكين الموارد البشرية: عبر التعليم المستمر وبناء المسارات المهنية وإدارة التعاقب الوظيفي.

سابعاً: نحو إدارة تصنع التحول

الإدارة الحديثة هي منظومة تفكير استراتيجي وتنفيذ منضبط وتعلم مستمر. فالمؤسسة التي تربط بين الإنسان والتقنية، وبين الأداء والقيم، هي التي تملك القدرة على البقاء في بيئة متغيرة.

إن التحول الإداري في السودان يجب أن يُعاد تعريفه بوصفه مشروعًا وطنيًا لبناء الكفاءة المؤسسية، لا مجرد إعادة هيكلة تنظيمية. فالإدارة التي تُدار بالمعرفة، وتُقاس بالنتائج، وتُدار بالتحليل، وتُحوكم بالقيم، هي التي تضع أسس النهضة المؤسسية الحقيقية.

ولن يتحقق الإصلاح إلا حين نُدرك أن الإدارة ليست جهازًا ينفّذ، بل منظومة تفكر وتتعلم وتبتكر. وعندها فقط، تصبح الدولة الحديثة قادرة على التحول من الاستجابة للأزمات إلى قيادة المستقبل.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى