مقالات

أثر البيئة في تشكّل الوعي: استراتيجية فكرية في فهم التحولات الثقافية والاجتماعية

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي


بسم الله الرحمن الرحيم

أثر البيئة في تشكّل الوعي: استراتيجية فكرية في فهم التحولات الثقافية والاجتماعية

تتكرر في مسيرة الإنسان مشاهد تعكس عمق علاقته ببيئته، وتُظهر كيف تتشكل استجاباته بحسب ما ألفه ونشأ عليه. إن الوعي، في كثير من الأحيان، ليس نتاج العلم وحده، بل هو ثمرة التجربة والبيئة والذوق العام، إذ تتدخل العادات والتقاليد في صياغة المفاهيم وتوجيه المواقف، فيصبح الفكر انعكاسًا للبيئة قبل أن يكون اختيارًا حرًّا.

قال الله سبحانه وتعالى في شأن بني إسرائيل:

اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم، وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.

لقد استحقوا الغضب الإلهي لأنهم بدّلوا النعمة وجحدوا ما أُعطوا من الطيبات، إذ لم يُحسنوا استقبال النعمة ولا شكر العطاء. وهنا تتجلى علاقة الوعي بالبيئة، فالذي نشأ في ثقافة الشكوى والنقمة، يصعب عليه أن يرى النعمة نعمة، ولو وُضعت في يده.

ومن واقعنا المعاصر، وقع موقف في مطلع الألفينات بمؤسسة نعمل فيها، حين حضرت جهة ما كمية كبيرة من الطحينة في عبوات تجاوزت عشرة كيلوغرامات. صُدّق على توزيعها للموظفين والعاملين بقرار من المدير العام، غير أن رئيس النقابة قال له بلهجة فيها شيء من التذمر:

طحينة؟ في هذه الظروف الصعبة؟ الناس محتاجة فلوس لتوفير متطلبات المدارس!

فما كان من المدير إلا أن ألغى التصديق وامتنع عن التوزيع.

وعلّق أحد الزملاء قائلاً بحكمة:

كان الأجدر أن نشكر المدير على مبادرته الطيبة، ونقول له: كثر الله خيرك، ثم نطلب — بلينٍ — أن تُضاف مساعدات نقدية أو عينية إن أمكن. فطلب الزيادة لا يُلام إذا زُيّن بالحكمة، أما الجحود فهو ما يُطفئ جذوة العطاء.

ذلك الموقف البسيط يكشف عن عمق الفارق بين ثقافة الشكر وثقافة الاعتراض، وبين من يرى العطاء بداية للخير، ومن يراه رمزًا للنقص. البيئة إذًا لا تصوغ فقط الذوق، بل تحدد أيضًا زاوية النظر إلى النعمة.

وفي السياق ذاته، يُروى أن ملكًا رأى في منامه أن جميع أسنانه سقطت، ففسرها أحدهم بأن كل أهله سيموتون، فغضب. ثم جاءه آخر فقال: “عمرك طويل، وستكون آخر من يموت من أهلك.” فسرّ بذلك.

المعنى واحد، ولكن البيئة الذوقية التي صاغت العبارة الثانية جعلت منها بشارة بدلًا من نذير شؤم.

ويكتمل المشهد بقصة الشاعر البدوي علي بن الجهم، الذي دخل على الخليفة المتوكل وهو لا يزال ابن البادية، فأنشده مادحًا:

أنت كالكلب في وفائك للودّ… كالتيس في قراع الخطوب!

فاستغرب الخليفة، فقيل له: إنه حديث عهد بالحضر. فأمر بإكرامه وإبقائه في بغداد. وبعد أن أقام فترة وعاشر أهل الأدب والذوق، عاد إليه وقال:

عيون المها بين الرصافة والجسر… جلبن الهوى من حيث لا أدري

لقد صاغته البيئة الجديدة، وصقلت ذوقه، وأعادت تشكيل لغته وخياله.

هكذا تعمل البيئة عمل المعلم الصامت؛ تُهذّب الحس، وتُنمّي الوعي، وتُعيد ترتيب منظومة القيم في داخل الإنسان. فالوعي لا يُبنى بالمعلومة وحدها، بل بالمعايشة، وبثقافة التقدير، وبمناخ يُشجّع على التهذيب والرقي في الفهم والتعبير.

البيئة كرافعة للوعي الجمعي

إن بناء المجتمعات لا يتحقق بكثرة الموارد وحدها، بل بصناعة بيئة ذوقية راقية تجعل الإنسان يرى النعمة في موضعها، ويُثمّن العطاء مهما صغر، ويُحسن التعبير عن احتياجاته دون جحود.

فالتحول الثقافي والاجتماعي يبدأ من إصلاح الوعي الجمعي، وإعادة تشكيل البيئة التي تصوغ الأذواق والمفاهيم والسلوك العام.

ومن ثمّ، فإن أي مشروع تنموي أو إصلاحي، لا بد أن يضع في صميمه البيئة الثقافية والتربوية بوصفها الحاضن الأعمق للوعي والسلوك الإيجابي.

توصيات

1. تعزيز ثقافة الشكر والتقدير في مؤسسات العمل والمجتمع عبر الخطاب الإعلامي والتربوي.

2. إعادة النظر في المناهج التعليمية لتشمل مفاهيم البيئة النفسية والاجتماعية كعامل مؤثر في بناء الشخصية.

3. تنمية الوعي بالأسلوب والذوق في التواصل، سواء في الإدارة أو الخطاب العام، لأن الكلمة قد تُحدث أثرًا يفوق القرار.

4. تشجيع المؤسسات على خلق بيئة عمل إيجابية تُقدّر المبادرات، وتحفز المشاركة بدلًا من النقد السلبي.

5. إطلاق مبادرات مجتمعية تحت شعار “ثقافة الامتنان” لتغيير أنماط التفكير السلبية السائدة في أوقات الأزمات.

إن الوعي لا يُورّث، بل يُزرع في بيئةٍ تُحسن الغرس. والبيئة، حين ترتقي بذوقها الجمعي، ترفع معها منسوب الحكمة في الخطاب، والرقي في السلوك، والاتزان في ردود الأفعال. فالأمم لا تُقاس بكمّ ما تملك من الموارد، بل بكيفية تفاعلها مع ما تملك؛ لا بثراء الأرض، بل بخصوبة العقول والقلوب.

وحين تتشكل بيئةٌ تُقدّر النعمة قبل أن تطالب بالمزيد، وتُحسن الظن قبل أن تعترض، وتُهذّب القول قبل أن تنطق، فإنها تكون قد خطت أولى خطوات النهضة الهادئة — تلك التي تبدأ من الداخل، من إعادة ترتيب منظومة الوعي والذوق والتقدير.

فالتحول الحقيقي لا تصنعه الشعارات ولا القرارات، بل بيئة الوعي التي تجعل الإنسان يرى الخير في ذاته وفي من حوله، ويحوّل العطاء مهما صغر إلى قيمة مضاعفة. عندها فقط، يصبح الشكر ثقافة، والوعي سلوكًا، والبيئة مدرسةً تبني الإنسان كما تبني الحضارة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى