مقالات

حين أشرقت بخت الرضا في ذاكرة تلميذ كان في العاشرة من عمره

بقلم  : د. عبد العظيم ميرغني

حين أشرقت بخت الرضا في ذاكرة تلميذ كان في العاشرة من عمره

• في اليوم، الثامن عشر من أكتوبر، من كل عام تحل ذكرى بخت الرضا، تلك الملحمة التربوية السنوية التي كان ينتظرها السودان كله.

• كان طلابُ معاهدِ التربية يتقاطرون إليها من كلِّ حدبٍ وصوبٍ — طلاب معاهد شندي ويامبيو والفاشر وكسلا والدلنج — ليشاركوا في موكب النور، ذلك المهرجانِ الذي كانت تُفتتح به الأعيادُ، فتنتظمُ صفوفُ الطلاب في نظامٍ مهيبٍ، يردّدون نشيد بخت الرضا الذي نظمه الشاعرِ عمرِ أبو القاسم، في الخمسينات: بعزمٍ أكيدٍ ورأيٍ سديد… سنمضي حثيثاً إلى ما نريد.

نشقُّ الصعاب نخوض المِحَن … لنحيا كراماً ويحيا الوطن

فيا معهداً زاخراً بالأمل … ليهنك أنَّ الشعار العمل

فَسِرْ بنا نحو غاياتنا … تجدنا صلاباً نعاف الوَنَى

• ثم تتوالى الفعاليات: المعارض، ألعاب الجمباز، العدو السريع (100 متر)، العدو المتوسط (400 متر)، سباق التبادل، القفز العريض، القفز العالي، القفز بالزانة، رمي الجلة، رمي الرمح، السباحة، الكرة الطائرة، كرة السلة، الطابور العسكري، سباق الضاحية، كرة القدم، والمسرح.

كانت الأعياد تربية وطنية مصغرة يرى فيها الناس السودان كله — متآخياً في لوحةٍ واحدة من النظام والفرح والعلم والانضباط.

لله أيام كأن عهودها … زهر تحَدَّر في جوانِبه النَّدَى

أبقت لنا ذِكرى نشاهدها رُؤى … في موكب الماضي ونسمعها صدى

أيامَ كنت أعيش بين ربوعها … حُرَّ الفؤاد ولا أعيش مُقَيدا

• ولم تكن تلك الذكريات حبيسة الشعر وحده، بل كانت حاضرة في وجداننا نحن التلاميذ الصغار أيضاً.

• فكما كانت لشاعرنا جماع ذكريات في بخت الرضا صاغها شعراً في تلك القصيدة، كانت لنا قصص وذكريات وحكايات أيضاً.

فما زالت في أذني ترانيم الطفولة التي كنا نغنيها في حصة “الجمباز”:

بركة دعول للحول… بركة فكي ترمي

• كانت اللعبة تجمع بين الحماس والمرح، وبعضنا يركب على ظهور بعضٍ في دائرةٍ نتبادل فيها الكرة ونحن نتغنى بـ”دعول”، متمنّين دوام الحال. أمّا أولئك الذين حرموا من الركوب، بسوء الحظ، فكانوا يتوسلون “بالفقرا” بالدعاء الطفولي أن تسقط الكرة، حتى يحين دورهم في الركوب على ظهور زملائهم!

• كانت تلك البساطة درساً في المشاركة والعدالة والروح الجماعية — تجسيداً صادقاً لفلسفة بخت الرضا التي جمعت بين اللعب والتربية والتعليم في منظومة واحدة.

• نشأ معهد التربية بخت الرضا نشأة بسيطة متواضعة عام 1934م، من بيوت وفصول ومكاتب من الطين، تكسو جدرانها طبقةٌ كثيفة من الزبالة، وقطاطي من القش.

• ورغم تلك البداية المتواضعة، استطاعت أن تتطور إلى مؤسسة تربوية وطنية رائدة، ذائعة الصيت إقليمياً وعالمياً، تصدر المناهج والخبرات وتؤهل المعلمين والموجهين، حتى صارت بحقّ مدرسةً للمدارس وجامعةً للتربية قبل الجامعات.

• كان النظام والانضباط سمتين بارزتين في حياة المعهد اليومية: الزي الموحد، النظافة، الالتزام بالمواعيد، بل حتى حركة “الكومر” العربة الوحيدة في المعهد كانت تُقاس بالدقيقة.

• يبدأ اليوم بشاي الصباح وحصة الرياضة، ثم الافطار وفي التاسعة تبدأ الدروس، وبعد الغداء مباريات كرة القدم في ملعب واحد كانت تقام فيه خمس مباريات دون أن تختلط الكرات!

• ففي الداخليات، نشأت نظم دقيقة غير مكتوبة تنظم الحياة اليومية — من توزيع الشاي واللبن إلى العدالة في قسمة “لحمة الملاح” فيما عدا بعض الممارسات التي لا تخلو منها مماريات قسمة (الثروة) في كل مكان وزمان .

تعلمنا هناك ونحن في سن صغيرة، معنى المسؤولية، والانتماء، والقيادة. وكان منا رؤساء ورئيس رؤساء، حكومة من وزراء ورئيس وزراء.

• كان بعض “الرؤساء” يمارس سلطاته الصغيرة على زملائه، لكنها كانت صورةً مصغرة للمجتمع السوداني في طور التكوين: خليط من النظام والتسلط، والعدالة والمحسوبية، والتجارب الأولى للسلطة والنظام.

• لم تكن بخت الرضا مجرد مدرسة، بل كانت فكرةً كبرى — فكرة أن التعليم يمكن أن يبني أمة.

في ساحاتها تشكّلت البذرة الأولى للانتماء الوطني، وفي ترانيمها حفظت ذاكرة الأجيال صوت السودان وهو يتعلم النور.

• وها نحن اليوم، بعد كل تلك العقود، نسمع الصدى ذاته حين نردد:

• بعزم أكيدٍ ورأيٍ سديد… سنمضي حثيثاً إلى ما نريد

• إنها ليست مجرد أنشودة بل ميثاق تربوي وإنساني، علمه لنا جيل المعلمين الذين صاغوا الضمير السوداني في معهدٍ بدأ ببيوت الطين، وانتهى منارةً تضيء الوطن، قبل أن تنطفئ عام 1997. لكنها ما تزال حية في نفوسنا ووجداننا.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى