التنمية المتوازنة كركيزة للنهضة والإعمار: نحو مدن متخصصة رقمية ذكية
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

التنمية المتوازنة كركيزة للنهضة والإعمار: نحو مدن متخصصة رقمية ذكية
تُعدّ التنمية المتوازنة الهدف الجوهري الذي نصّت عليه الاستراتيجية ربع القرنية (2007–2031م) بوضوح، إذ هدفت إلى وضع الدولة في حالة من التوازن الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والإداري، بما يحقق توزيعاً عادلاً للموارد والفرص ويُخفّف الضغط عن العاصمة ويمنح الأقاليم حقها في التنمية والنهضة. فالتوازن يولّد الاستقرار، والاستقرار يخلق بيئة للإبداع والبناء والإعمار، وهي الحلقات التي تمثل جوهر التنمية المستدامة.
لقد جاءت الاستراتيجية ربع القرنية برؤية متقدمة تقوم على مفهوم المدن المتخصصة — مدن ذكية رقمية ذات وظائف محددة تتكامل فيما بينها ضمن شبكة وطنية متوازنة. فالتنمية المتوازنة ليست مجرد توزيع للمشروعات، بل هي هندسة استراتيجية للفضاء الوطني، تجعل من كل مدينة مركز تميز في مجال محدد، ضمن رؤية شاملة توظف التكنولوجيا والمعرفة وتستند إلى أسس حضارية متينة.
المدن الدبلوماسية واللوجستية
تقوم الفكرة على إنشاء مدن دبلوماسية ولوجستية متكاملة تحتوي على فروع من وزارة التجارة ووزارة الخارجية ومكتب رئاسي، وتُقام فيها أحياء دبلوماسية وفق النظم العالمية للمدن الذكية. وتُمنح السفارات أراضٍ واسعة بعقود إيجار طويلة الأمد (99 عامًا) لإنشاء مقارّها ومساكن منسوبيها وفق اشتراطات عمرانية حديثة. وتُقدم خدمات المواطنين من خلال فروع القنصليات بالمدن الكبرى، مما يخفف الضغط عن العاصمة ويخلق توازناً بين العلاقات الخارجية والتنمية الداخلية.
المدن الإنتاجية والصناعية
أما المدن الصناعية والإنتاجية فتُقام في مناطق الثقل الاقتصادي والزراعي لتكون مراكز متقدمة للإنتاج والتصنيع والتصدير، مع إنشاء موانئ ومطارات دولية في محيطها لربطها بالأسواق العالمية. هذه المدن ليست مجرد تجمعات مصانع، بل هي منظومات اقتصادية ذكية تضم مراكز أبحاث وتدريب وشركات خدمات مساندة، لتصبح نواة للنمو الوطني المستدام.
العاصمة السيادية والسياحية
تُحافظ العاصمة السيادية على طابعها الوطني باعتبارها مركز القيادة والوزارات السيادية، مع تحويلها تدريجياً إلى عاصمة سياحية خضراء تُبرز الهوية الثقافية والتاريخية، وتُزال منها المصانع الملوِّثة والأنشطة غير الملائمة للطابع الحضري. أما الوزارات الخدمية فتوزع على المدن الكبرى وفق طبيعة كل مدينة الإنتاجية، تحقيقًا لمفهوم اللامركزية الرقمية الذكية.
التعليم كرافعة للتنمية
وتتبع هذه الرؤية خطوة استراتيجية محورية هي ربط الجامعات الحكومية والخاصة والكليات التقنية بالتنمية الولائية، بحيث تصبح كل جامعة داعمة لمحيطها الجغرافي، ومصدراً للبحوث التطبيقية والخدمات المجتمعية. ويهدف ذلك إلى منع الهجرة التعليمية نحو العاصمة كما نصت عليه الاستراتيجية ربع القرنية، وتوطين الكفاءات في مواقع الإنتاج، وتحويل التعليم إلى قوة إنتاجية لا مجرد مؤهل أكاديمي.
ضبط الوجود الأجنبي وتعزيز الأمن الوطني
تحتاج العاصمة السيادية إلى ضبط دقيق للوجود الأجنبي وتحديد نسبه، بما يتسق مع مقتضيات الأمن القومي والهوية الوطنية. فالتوازن في توزيع السكان والفرص والوظائف عبر الولايات يسهم في تخفيف الضغط الأمني والسكاني عن العاصمة، ويعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
البنية التحتية والنقل الجوي
إن إنشاء مطارات دولية جديدة في المدن الإنتاجية يمثل نقلة استراتيجية تدعم انسياب السلع وحركة الأفراد وتفتح آفاق الاستثمار. فالبنية التحتية المتوازنة هي أساس التنمية، وهي ما يجعل من الدولة شبكة متكاملة من المراكز المتخصصة بدلاً من مركز واحد مزدحم ومختنق.
الرؤية المستقبلية
تسعى هذه الرؤية إلى تحويل البلاد إلى دولة المدن المتخصصة — مدن سياحية، مدن للإنتاج، وأخرى للبحث، وأخرى للدبلوماسية — لتعمل كلها في منظومة واحدة تخدم التنمية المستدامة. وهكذا يتحقق التوازن الذي يولّد الاستقرار، والاستقرار الذي يثمر الإبداع والنهضة والإعمار.
التوصيات:
1. الإسراع في تفعيل رؤية المدن المتخصصة لتحقيق التنمية المتوازنة بين الولايات.
2. إعادة هيكلة التوزيع الوزاري والإداري بما ينسجم مع طبيعة المدن ووظائفها الإنتاجية.
3. وضع تشريعات استثمارية جديدة لتخصيص الأراضي للسفارات والمؤسسات الدولية بعقود طويلة الأمد وفق اشتراطات حضرية.
4. تطوير شبكة النقل والمطارات الدولية لدعم المدن الإنتاجية وربطها بالأسواق العالمية.
5. تعزيز اللامركزية التعليمية عبر ربط الجامعات والكليات ببرامج التنمية الولائية.
6. مراجعة سياسات الوجود الأجنبي بما يضمن التوازن الأمني والديمغرافي ويحافظ على السيادة الوطنية.
7. تحويل العاصمة السيادية إلى مدينة سياحية خضراء تحافظ على رمزية الدولة وتقلل من الكثافة السكانية والبيئية.
إن التنمية المتوازنة ضرورة استراتيجية لبقاء الدولة وازدهارها. فحين تُدار التنمية بعقل استراتيجي مستنير، وتُوزع الموارد بعدالة، وتُبنى المدن بوظائفها الصحيحة، تصبح الأمة قادرة على تحقيق نهضتها المنشودة على أسس حضارية واقتصادية متينة.
التنمية المتوازنة هي الطريق إلى الاستقرار، والاستقرار هو بوابة الإبداع، والإبداع هو سرّ الإعمار والنهضة.