مقالات

جيل البناء الوطني: إرادة التحول واستراتيجية تأهيل الإنسان في السودان

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

جيل البناء الوطني: إرادة التحول واستراتيجية تأهيل الإنسان في السودان


يشهد السودان مرحلة فارقة من تاريخه الحديث، تتقاطع فيها متطلبات إعادة الإعمار الاجتماعي والنفسي مع الحاجة إلى إعادة تشكيل الإنسان السوداني ذاته كركيزة لكل نهضة. فالأمم لا تنهض بالبنى التحتية وحدها، بل ببناء العقول والإرادات القادرة على إنتاج التماسك، واستدامة الإصلاح، وتحويل الألم إلى مشروع وطني جامع.

إنّ تجارب التنمية العالمية – من سنغافورة إلى رواندا – تثبت أن التحول يبدأ بإرادة جمعية تتجاوز الانقسام، وأن الإنسان هو الهدف والوسيلة في كل استراتيجية. فكما يقول بيتر دراكر: “الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار”، فإنّ إصلاح السلوك الجمعي هو الشرط المسبق لأي تخطيط فعّال.

تستند الرؤية المقترحة إلى تصور مستقبلي يقوم على بناء جيل سوداني موحّد مؤمن بمرجعيته القيمية والهوية الوطنية الجامعة، متمكن علميًا ومهنيًا، وقادر على الدفاع عن الوطن ضمن إطار القانون، ومحميّ من الأخطار الثقافية والاجتماعية كالإدمان والعنف والاستلاب. هذه ليست مجرد رؤية تربوية، بل مشروع لإعادة بناء “الذات الوطنية” عبر التعليم والإعلام والمجتمع، على مدى زمني يمتد من خمس إلى عشر سنوات، لتكوين مواطن منتج وواعٍ وملتزم بمسؤوليته تجاه الدولة والمجتمع.

إنّ الهدف العام هو بناء منظومة تعليمية ومجتمعية وإعلامية تولّد مواطنًا صالحًا وفاعلًا، لا من حيث المعرفة فقط، بل من حيث السلوك والانضباط والقدرة على الدفاع المشروع عن مكتسبات الوطن في ظل الشرعية وسيادة القانون. إنها استراتيجية لإعادة هندسة الإنسان السوداني — عقلًا ووجدانًا — في مواجهة مرحلة ما بعد الحرب والانقسام، بالعلم والإرادة والعدالة.

تقوم فلسفة التخطيط الاستراتيجي، كما في أدبيات “هنري منتزبرغ” و”جون كوتر”، على أنّ النجاح في التنفيذ لا يُقاس بصحة الخطة على الورق، بل بقدرة المؤسسات على خلق إرادة تنفيذية واعية ومستمرة. في الحالة السودانية، يمثل غياب الإرادة المؤسسية أكبر فجوة بين الخطط والواقع. ومن هنا تأتي أهمية أن تكون هذه المبادرة ليست مجرد خطة إصلاح، بل منظومة إرادة جماعية تشارك فيها الدولة والمجتمع، التعليم والدين، القانون والإعلام، ضمن مشروع وطني أخلاقي يحصّن الدولة من الانهيار الاجتماعي.

الإرادة هنا ليست شعاراتية بل تنفيذية، أي تحويل “النية إلى فعل” عبر منظومة قوانين ومؤشرات قياس ومؤسسات رقابية، بحيث لا تُترك إعادة بناء الجيل للجهد التطوعي وحده، بل تصبح سياسة وطنية محمية بالقانون، مدعومة بالتمويل والالتزام الإداري.

ينطلق التنفيذ من إعادة بناء المناهج التعليمية كمحرّك الوعي الجمعي، بإدخال مقررات في القيم الوطنية والمواطنة والحقوق والمسؤوليات، إلى جانب التربية المدنية والوقاية الصحية والتفكير النقدي. فالتعليم ليس حشوًا معرفيًا، بل عملية بناء للذات الواعية القادرة على التمييز والتفكير والتحليل، كما أثبتت تجارب فنلندا وكوريا الجنوبية.

إنّ التربية الإسلامية تعد بدورها خط الدفاع الأول ضد الاستلاب، من خلال تمكين الشباب من فهم آليات التأثير الثقافي الخارجي، والتعامل النقدي مع المحتوى الرقمي، وإنتاج بدائل وطنية خلاقة تروّج لقيم العمل والانتماء.

في المقابل، يتعين توظيف المنابر الدينية والاجتماعية في خدمة المصالحة والوسطية، وتوجيه الخطاب الديني نحو قيم البناء لا الانقسام، عبر تدريب الخطباء والعلماء على خطاب عقلاني يوازن بين الإيمان والعلم، بين الهوية والانفتاح، وبين الحماسة الوطنية وروح التسامح.

ويُعد ملف إعادة تأهيل المقاتلين والمتضررين من الحرب محورًا إنسانيًا واستراتيجيًا، يتجاوز التسريح التقليدي إلى الدمج الاقتصادي والاجتماعي، من خلال التعليم والتدريب والتمويل الصغير، على غرار ما فعلته رواندا بعد الإبادة الجماعية حين جعلت “المصالحة عبر العمل” بديلاً عن الانتقام.

أما الوقاية من الإدمان والانحلال فهي جزء من الأمن الوطني الاجتماعي، لا تُعالج فقط بالقانون بل ببناء البدائل: الرياضة، والفنون، والمشروعات الإنتاجية، والدعم النفسي. فالشباب الذي يجد معنى لحياته يصبح تلقائيًا حارسًا لقيم المجتمع.

ومن أبرز ملامح الرؤية إدخال مفهوم التربية العسكرية المدنية كبرنامج اختياري قانوني بعد المرحلة الثانوية أو الجامعية، يهدف إلى تعزيز الانضباط، والإسعافات، وإدارة الكوارث، والقيادة، دون أي مظهر للتجنيد القسري أو التدريب القتالي. الهدف ليس عسكرة الشباب بل تحصينهم بالانضباط والمعرفة القانونية والأخلاقية، ضمن منظومة دفاع مدني وطنية خاضعة لإشراف الدولة والرقابة الحقوقية.

يقترح إصدار قانون وطني لإعادة التأهيل المجتمعي وبناء الجيل، يحدد بوضوح الأدوار والصلاحيات، ويمنع أي نشاط مسلح خارج مؤسسات الدولة، ويضمن حماية النساء والأطفال، كما ينشئ لجنة عليا لتأهيل الجيل تضم وزارات التربية والدفاع والشؤون الدينية والعدل، وممثلين للمجتمع المدني والقطاع الخاص.

فالإدارة الرشيدة هي روح الاستراتيجية؛ إذ إنّ غياب التنسيق المؤسسي يُفرغ الخطط من مضمونها. ومن هنا تأتي ضرورة تبني نهج “الحوكمة المتكاملة” التي توائم بين التشريع، التنفيذ، والرقابة، ضمن رؤية وطنية موحدة.

التمويل والاستدامة

تعتمد الاستدامة على مزيج من التمويل العام والشراكات الذكية. يمكن أن تسهم الموازنات المخصصة لإعادة الإعمار الاجتماعي في دعم التعليم والتأهيل المهني، إلى جانب مساهمات القطاع الخاص عبر برامج المسؤولية المجتمعية. كما يمكن توظيف الموارد الزراعية والمعدنية والبحرية كمصادر تمويل طويلة الأمد، على أن تُدار بشفافية تضمن استمرار البرامج بعد انتهاء التمويل الخارجي.

المخاطر ووسائل المعالجة

من أهم المخاطر المحتملة تسرب البرامج إلى مسارات غير قانونية أو استغلالها لتعبئة فئوية أو جهوية، ما يتطلب رقابة مدنية صارمة، ومؤشرات أداء واضحة، وحملات توعية مستمرة تؤكد أن هذا المشروع وطني فوق الانتماءات. كما ينبغي مواجهة خطر الخطاب الديني المتشدد أو الإعلام المنفلت عبر التدريب والإشراف، لا بالقمع، بل ببناء وعي بديل مستنير. أما التحدي الاقتصادي، فيُعالج بربط التدريب بالتشغيل الفعلي وليس بالتأهيل الرمزي.

مؤشرات قياس النجاح

يقاس النجاح بنسبة المدارس التي تُدخل المناهج الجديدة، وبنسب انخفاض الإدمان والعنف، وارتفاع معدلات المشاركة في برامج التدريب المهني والخدمة المدنية. كما تقاس فاعلية البرامج عبر استبيانات وطنية لقياس الانتماء والوحدة، ومؤشرات الاندماج الاجتماعي للمقاتلين السابقين.

التوصيات

1. إطلاق هيئة وطنية لبناء الإنسان السوداني تتولى وضع السياسات التربوية والمجتمعية والإعلامية تحت مظلة واحدة، لضمان التكامل بين الجهود.

2. دمج التربية القيمية في كل مستويات التعليم كعنصر إلزامي في التقييم الأكاديمي والسلوك المهني.

3. تحويل الإعلام العام إلى منصة للتنمية الوطنية عبر محتوى توعوي شبابي مدعوم بالتحليل والقصص الواقعية.

4. توسيع برامج ريادة الأعمال والتدريب المهني ضمن المدارس والجامعات لربط التعليم بالإنتاج.

5. إعادة هيكلة الخطاب الديني الرسمي ليتكامل مع مقاصد التنمية والإصلاح الاجتماعي.

6. إقرار مبدأ العدالة الانتقالية المجتمعية لضمان مصالحة وطنية قائمة على القانون لا المجاملة.

7. بناء نظام وطني للمؤشرات الاجتماعية يقيس التماسك والانتماء مثلما تقاس مؤشرات الاقتصاد.

إنّ السودان، وهو يخرج من رماد الصراع، لا يحتاج فقط إلى إعمار مبانيه، بل إلى إعادة بناء إنسانه. فالخطر الأكبر ليس في الخراب المادي، بل في ضياع المعنى. وعندما يستعيد المجتمع السوداني وعيه بذاته وإرادته، سيصبح التعليم والإعلام والدين والاقتصاد أدوات لغاية واحدة: إحياء الروح الوطنية كقوة استراتيجية لإعادة التوازن والاستقرار.

وهكذا، تتحول الاستراتيجية من ورقٍ إلى إرادة، ومن شعارٍ إلى فعل، ومن مشروعٍ إلى واقعٍ يتجدد كل صباح على أرض السودان.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى