السباحة عكس التيار تقود إلى انهيار الدولة: رؤية استراتيجية شاملة للإصلاح الإداري والخدمي وإعادة هيكلة المشهد التنموي في السودان
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

السباحة عكس التيار تقود إلى انهيار الدولة: رؤية استراتيجية شاملة للإصلاح الإداري والخدمي وإعادة هيكلة المشهد التنموي في السودانه
في عالم تتغير فيه خرائط القوة والمعرفة، لا ينهض وطن يسير عكس التيار، ولا تبنى دولة بمنهج التجريب والمصادفة. فالسباحة عكس التيار ليست شجاعة، بل إنهاك واستنزاف للطاقة الوطنية في اتجاه خاطئ، فالبحر عميق والمسافة طويلة، والوقت لا ينتظر من يكرر أخطاءه. هناك تفاصيل صغيرة نعدّها هامشية، لكنها في الواقع القشة التي قصمت ظهر الدولة، وحولت التراكمات البسيطة إلى أزمات مستعصية.
نفرح أحيانًا بإعادة تشغيل مصنع في الخرطوم، بينما هو في جوهره عبء جديد على العاصمة، وتراجع عن أبسط مبادئ الرؤية الاستراتيجية التي تقوم على تفكيك تمركز التنمية وتوزيع الفرص الإنتاجية بين الولايات. إن وجود المصانع داخل الخرطوم ليس إنجازًا، بل فشل في إدارة الجغرافيا الاقتصادية. فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بعدد الدخان المتصاعد من مداخن العاصمة، بل بعدد المدن المنتجة التي تنبض بالحياة في أطراف الوطن.
إعادة توزيع التنمية ومفهوم اللامركزية الفعالة
لقد آن الأوان لتتحول اللامركزية من شعار إداري إلى ممارسة تنموية شاملة. فإعادة توزيع الجامعات والكليات الخاصة والحكومية إلى الولايات، مع الإبقاء على ثلاث جامعات بحثية فقط كمراكز امتياز علمي في الخرطوم، يمثل خطوة جوهرية لإعادة التوازن التعليمي والاقتصادي. لا يُعقل أن تبقى عاصمة البلاد محتكرة للتعليم العالي، بينما تُترك الولايات في فراغ معرفي يكرس للهجرة التعليمية والنزوح الأكاديمي.
أما مطار الخرطوم القديم، فقد استنفد غايته، وأصبح وجوده في قلب المدينة خطأً بيئيًا واستراتيجيًا فادحًا. الحل ليس في ترقيعه، بل في تحويله إلى حديقة كبرى ومتنفس طبيعي يرمز إلى تحوّل الخرطوم إلى مدينة سياحية وثقافية عالمية، تمامًا كما فعلت برلين عندما حولت مطار “تمبلهوف” إلى حديقة عامة كبرى. في المقابل، تُنشأ مطارات دولية حديثة في المدن الإنتاجية بنظام (البوت)، مما يعزز الحركة التجارية ويخفض الضغط العمراني على العاصمة.
المدن المتخصصة والعدالة الإنتاجية
الرؤية الاستراتيجية الجديدة يجب أن تعتمد على المدن المتخصصة، بحيث تكون الخرطوم مدينة سياحية وثقافية، ومدني مدينة صناعية، وغرب السودان محورًا للزراعة والثروة الحيوانية، وبورتسودان مركزًا للتجارة واللوجستيات. فكل ولاية تمتلك ميزة نسبية يمكن تحويلها إلى ميزة تنافسية إذا توافرت الإرادة والإدارة.
الإصلاح الإداري والخدمة المدنية
غير أن إعادة هيكلة الجغرافيا الاقتصادية لا تنفصل عن إصلاح الجغرافيا الإدارية. فالقوانين الحالية للخدمة المدنية أصبحت جامدة وغير مرنة، وتحتاج إلى مراجعة شاملة تتواءم مع روح العصر ومتطلبات الكفاءة.
من غير المنطقي حجب الترقية عن العاملين في إجازات بدون راتب أو في الخارج، بينما يسعون لتحسين مهاراتهم أو ظروفهم المعيشية. كما أن المغتربين يجب أن يُعاملوا كعقول وطنية داعمة للإنتاج والتنمية، لا كمصدر للجبايات فقط. يمكن ربط الضرائب بالمعاش والزكاة والتأمين الصحي مثل العاملين بالدولة، لتصبح العدالة الاجتماعية ملموسة وليست شعارات.
وفي المقابل، ينبغي أن تتحول الحوافز في الخدمة المدنية من بدلات شكلية إلى أدوات لقياس وتحفيز الأداء. فبدل المؤهل العلمي لا يجب أن يكون مكافأة على الورق، بل نتيجة مباشرة لإسهام علمي أو إنتاجي ملموس. أما في المؤسسات الأكاديمية، فالتقييم العلمي له مكانه الطبيعي، ولكن في المؤسسات الإدارية والتنفيذية، فإن المهارات العملية أهم من الشهادات الورقية.
لقد أثبتت التجربة في دول الخليج أن كثيرًا من حاملي شهادات مثل CIPD أو SHRM أو HRBP يفتقرون إلى المهارات العملية في تحليل الوظائف أو تصميم المسارات الوظيفية أو بناء أنظمة إدارة الأداء. لذلك يجب إعادة تعريف مفهوم الزمالة الإدارية والمهنية كمسار تطبيقي، لا كرمز شكلي.
هنالك حوافز لا تتماشى مع خط الاستراتيجية الوطنية مثل بدل وجبة يمكن معالجتها بتوفير وجبة إفطار شعبية وحافز أو منحة المدارس، باعتبار أن التعليم العام التزام حكومي ومجاني كما نصت الأهداف الأممية السبعةعشر ، إضافة إلى منح أبناء العاملين في التعليم العام أو العالي مزايا وعلامات إضافية لا على أساس الكفاءة، تؤدي الى حرمان من يستحق فرص التعليم العالي.
إن التعليم العام التزام حكومي لا يُختزل في حافز أو منحة ظرفية، فالحافز المدرسي الشامل للعاملين بالدولة ومنح العلامات الإضافية للعاملين بالتعليم العالي يجب أن يُعاد النظر فيهما ضمن رؤية العدالة الاستراتيجية التي تجعل التعليم حقًا عامًا ومجانية التعليم التزامًا وطنيًا وفقًا لأهداف التنمية المستدامة.
تحسين بيئة العمل والمعيشة
لا يمكن إصلاح الخدمة المدنية دون تحسين بيئة العمل، كتوفير وجبة إفطار شعبية، وإنشاء استراحات داخل المؤسسات للموظفين الذين تتطلب وظائفهم ساعات طويلة أو مناوبة عمل.
ومن ناحية أخرى، إعادة أنظمة التموين القديمة وتفعيل التعاونيات والبطاقات التموينية المربوطة بعدد أفراد الأسرة لتوفير السلع الأساسية بأسعار تركيز، يمثل رؤية اجتماعية متكاملة تربط الأجر بالمعيشة.
البنية الاجتماعية والتماسك الوطني
لا تنمية بدون استقرار اجتماعي، ولا استقرار بدون منظومة قيم تدعم الزواج والأسرة. يمكن إعادة النظر في قوانين الحوافز الاجتماعية لتشجيع الزواج وتخفيف تكاليفه، مع بناء مجمعات سكنية قرب أماكن العمل. فالمسكن القريب من العمل ليس رفاهية، بل أداة إنتاجية تقلل الهدر الزمني وتزيد الرضا الوظيفي.
الإنتاج الزراعي والحيواني كمدخل للأمن القومي
يبقى الإنتاج الزراعي والحيواني والاستزراع السمكي هو الأساس الصلب للأمن الاقتصادي والغذائي. فالإستراتيجية الزراعية لا تبدأ من البذور فقط، بل من إصلاح سلوك المزارع وتحفيزه على الإنتاج الجماعي والتعاوني. متى ما تم تنظيم المزارعين وتوفير التمويل الإنتاجي الحقيقي وليس الاستهلاكي، سيعود السودان سلة غذاء العالم كما وُصف قديمًا.
جذور الأزمة وفجوة التنفيذ
الأزمة ليست في غياب الخطط، بل في غياب الإرادة التنفيذية، واستمرار مقاومة التغيير، وتغلغل شبكات المصالح التي تحوّل الاستراتيجيات إلى وثائق منسية. إن عدم تنفيذ الرؤية الاستراتيجية وتعميق فجوة التنفيذ ينعكس على الحكومة والمجتمع معًا، ويمثل أحد أهم أسباب انهيار الدولة. فالفساد الإداري ليس فقط في المال، بل في الفكر الذي يقاوم الإصلاح.
التوصيات
1. إعادة توزيع التعليم والبحث العلمي: نقل الجامعات والكليات الخاصة والحكومية إلى الولايات الإنتاجية، مع الإبقاء على ثلاث جامعات بحثية كمراكز امتياز علمي في الخرطوم.
2. تطوير البنية التحتية للمطارات: تحويل مطار الخرطوم القديم إلى حديقة كبرى، وإنشاء مطارات دولية حديثة في المدن الإنتاجية وفق نظام (البوت).
3. إصلاح الخدمة المدنية وربط الأداء بالترقي: تعديل القوانين لزيادة المرونة، وتمكين الترقيات على أساس الأداء الفعلي والكفاءة، وعدم معاقبة من يسعون لتحسين مهاراتهم أو ظروفهم المعيشية.
4. دمج نظم العدالة الاجتماعية: ربط الضرائب والزكاة والتأمين الصحي في نظام موحد لتطبيق العدالة الاجتماعية بشكل ملموس لجميع العاملين بالدولة، بما في ذلك المغتربين.
5. استقطاب الكفاءات والمغتربين: تشجيع العودة الطوعية للكفاءات الوطنية والمغتربين لدعم التنمية والإنتاجية بالولايات المختلفة.
6. تحفيز الاستقرار الأسري والاجتماعي: تقديم حوافز الزواج والدعم الأسري، وبناء مجمعات سكنية قرب أماكن العمل.
7. تحسين بيئة العمل والمعيشة: توفير وجبة إفطار شعبية، إنشاء استراحات مناسبة، وتفعيل التعاونيات والتموين الشعبي لتخفيف أعباء المعيشة وربط الدعم بعدد أفراد الأسرة.
8. تطوير الزمالات والبرامج المهنية: إعادة تعريف برامج الزمالة الإدارية والمهنية كمراكز مهارة تطبيقية تربط التدريب العملي بالأداء المؤسسي، بدل أن تكون رمزية فقط.
9. تعزيز الإنتاج الزراعي والحيواني: دعم الزراعة والثروة الحيوانية والاستزراع السمكي، مع تطوير الصناعات المرتبطة بها باعتبارها أولوية أمن قومي.
10. تفعيل المتابعة والتقييم الاستراتيجي: وضع آليات واضحة للرقابة والتقييم الدوري لتنفيذ الخطط التنموية، ومعالجة الثغرات التنفيذية بشكل فوري لضمان استمرارية النجاح.
إن النهوض بالسودان يتطلب إرادة وطنية حقيقية وقدرة على اتخاذ قرارات جريئة تتجاوز المصالح الجزئية والبيروقراطية التقليدية. فإعادة توزيع التنمية، الإصلاح الإداري، دعم الكفاءات الوطنية، تحسين بيئة العمل، وتحفيز الاستقرار الاجتماعي، كلها ركائز أساسية لإنقاذ الدولة من السباحة عكس التيار.
الرؤية الاستراتيجية ليست مجرد خطة على الورق، بل هي عقد وطني يتجدد بالإرادة والعمل المخلص، حيث يتحول كل تحدٍ إلى فرصة، وكل أزمة إلى حافز للإبداع والإنتاج. وبإعادة ترتيب الأولويات ووضع الإنسان والإنتاج في مركز السياسات، يصبح السودان قادرًا على استعادة موقعه بين الأمم، وتحويل التحديات إلى نهضة شاملة ومستدامة.