
فك التمركز وبناء الدولة: من مطار الخرطوم إلى مطارات الإنتاج
كثيرًا ما أتساءل: لماذا تفكر الدولة في اختيار “أنشط والٍ – كما تصفه – لتولي زمام الأمر في الخرطوم؟ وما الفهم الذي يقوم عليه هذا الاختيار؟ وفيما ينشط هذا الوالي؟ وما هي رؤيته الاستراتيجية؟ وما المسكنات والروشتات التي يعمل بها؟ ولماذا يُزيَّن للناس مشروع عودة المطار القديم بدلًا من التفكير في إنشاء مطارات بديلة بالولايات تسد الحاجة عن مطار الخرطوم؟ ولماذا لا يتحول المطار القديم إلى متنفس طبيعي كما حدث في ألمانيا وعدة دول حولت مواقعها المركزية إلى فضاءات خضراء ومدن حديثة؟
ولماذا الإصرار على إعادة المنتج القديم، وعلى التجارب التي أثبتت فشلها في عالم لم يعد يقبل تكرار الأخطاء؟ ولماذا لم يرتقِ فهم قيادة الدولة إلى إدراك أن أكبر معضلة تواجه السودان هي تمركز الاقتصاد والخدمات في الخرطوم، وما يترتب على ذلك من تعميق الفجوة بين العاصمة والولايات، وتوسيع دائرة التهميش وعدم التوازن التنموي؟ أليس هذا التمركز يعني أن الحكومة هي “حكومة الخرطوم”؟
إن التمركز المفرط في العاصمة هو في حقيقته أسّ الفساد الإداري وأحد أكبر معوقات تنفيذ الاستراتيجية الوطنية. فالخرطوم ليست السودان، بل جزء منه، وإن حُصرت السلطة والإدارة والاقتصاد فيها فإن الدولة كلها تضعف، وتتحول الولايات إلى هوامش تبحث عن البقاء في ظل مركز يستهلك ولا ينتج.
لقد أُعدت العديد من الخطط والرؤى لتحويل الخرطوم إلى مدينة سياحية خضراء، تربط بين النيلين وتُدار على أساس حضري ذكي ومتوازن، لكنّ هذه الرؤى بقيت حبيسة الأوراق، لأن الفهم التنفيذي ظلّ تقليديًا، مرتبطًا بالوجاهة الإدارية لا بالفكر التنموي. فالوالي الذي يُختار بناءً على “النشاط الظاهر” لا بناءً على الكفاءة المؤسسية والقدرة على إدارة التنمية، يتحول إلى أداة لتسكين الأزمات لا لمعالجتها.
ولذلك، فإن الاختيار الصحيح للولاة ينبغي أن يقوم على رؤية استراتيجية متكاملة، تربط بين موارد الولاية وقدرتها الإنتاجية، وبين دورها في دعم الاقتصاد القومي لا مركز العاصمة. فولايات السودان تمتلك مقومات تجعلها قادرة على النهوض الصناعي والزراعي والسياحي، لكنّ غياب اللامركزية الفعلية جعلها رهينة المركز.
إن تحويل مطار الخرطوم القديم إلى منتزه وطني ومركز حضري للتنمية المستدامة يمثل رؤية تنموية متقدمة تتسق مع الاتجاهات العالمية نحو إعادة توظيف الأراضي العامة بما يخدم الإنسان والبيئة معًا، بدلًا من إعادة بناء مؤسسات مركزية فوق ركام التجارب الفاشلة. أما المطار الدولي، فينبغي أن يكون متعدد المواقع، بوجود مطارات إقليمية كبرى في ولايات مثل الجزيرة، نهر النيل، البحر الأحمر، دارفور، وكردفان، بحيث تتحول هذه المراكز إلى محاور اقتصادية لوجستية تسند الاقتصاد الوطني وتقلل من ضغط العاصمة وتكاليف النقل والتكدس.
إن الإصرار على إعادة المنتجات القديمة كحلول مؤقتة هو إهدار ممنهج للمال العام وابتعاد عن جوهر الاستراتيجية الوطنية التي تستهدف تحقيق التنمية المستدامة. فكل مسكن إداري مؤقت هو تأجيل لانفجار أزمة قادمة، لأن الإصلاح لا يكون بالمعالجات السطحية بل بإعادة هندسة الدولة وتوزيع السلطة والمسؤولية على نحو متوازن.
إن فهم الاستراتيجية في هذا السياق يعني إدراك العلاقة بين الجغرافيا والإدارة والاقتصاد والمجتمع، وبناء دولة منتجة من أطرافها لا مستهلكة من مركزها. فحين تنهض الولايات، تنهض الدولة، وحين تحتكر الخرطوم القرار والمال والإدارة، تتجمد مؤسسات الدولة وتضعف قدرتها على الفعل الاستراتيجي.
ولعلّ أبرز ما تحتاجه البلاد اليوم هو الانتقال من نمط الحكومة المركزية إلى نمط الدولة المنتجة متعددة المراكز، بحيث يُعاد توزيع البنى التحتية، والمطارات، والجامعات، والمناطق الصناعية، بما يخلق توازنًا حقيقيًا بين الولايات. ذلك هو الطريق الوحيد لإنهاء الحلقة المفرغة من الأزمات، واستعادة الثقة بين المواطن والدولة، وبناء السودان الجديد على أسس العدالة والتنمية الشاملة.
التوصيات
1. تبني رؤية قومية لفك التمركز الإداري والاقتصادي ترتكز على إنشاء مراكز تنموية كبرى في الولايات ذات الميزات النسبية.
2. تحويل مطار الخرطوم القديم إلى متنفس حضري وسياحي يخدم سكان العاصمة، مع إنشاء مطارات دولية إقليمية في الولايات لربط السودان بالعالم.
3. إعادة هيكلة صلاحيات الولاة وفق معايير الكفاءة والإنتاجية، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية أو الولاءات الشخصية.
4. تفعيل نظام اللامركزية الإنتاجية الذي يربط الموارد المحلية بإدارة محلية مستقلة تخضع للرقابة الوطنية لا المركزية.
5. توجيه الاستثمارات العامة والخاصة نحو الولايات لتقليل الفجوة التنموية بين المركز والأطراف.
6. إعداد دليل استراتيجي تنفيذي (Implementation Manual) لفك التمركز، يحدد الخطوات والإجراءات والمؤشرات بدقة وفق معايير الحوكمة.
7. إطلاق مبادرة وطنية للتوازن التنموي تشارك فيها الجامعات ومراكز البحوث والمجتمع المدني، لضمان الاستدامة والمتابعة الميدانية.
8. تحويل الخرطوم إلى عاصمة سياحية خضراء لا مركزًا للسلطة والاحتكار الاقتصادي، بما ينسجم مع روح المدن العالمية الحديثة.
الخرطوم التي نحلم بها
الخرطوم التي نحلم بها ليست مدينة الإسفلت والزحام، بل مدينة الإنسان والإنتاج والسلام.
مدينة تتنفس الخُضرة وتفيض بالحياة، يتقاطع فيها نيلان فيسقيان أرض العدالة كما يسقيان حقول القمح.
الخرطوم التي نحلم بها ليست مركزًا يحتكر القرار، بل قلبًا ينبض في جسد الوطن الكبير، تُمدّه الولايات بقوتها، ويمنحها الأمن والاستقرار.
هي عاصمة تُدار بالعقل لا بالعاطفة، وبالرؤية لا بالمكياج السياسي، تفتح أبوابها للعالم لا لتزدحم بالسلطة، بل لتكون منصة تنموية وطنية تليق بتاريخ السودان ومستقبله.
فك التمركز ليس مجرد خيار إداري، بل تحرر وطني من أسر العادة والفشل، وانطلاقة نحو السودان المنتج، المتوازن، المزدهر، الذي يتساوى فيه الجميع في الحق والخدمة والكرامة.
كتب هذا المقال من واقع الخبرة الاستراتيجية في التخطيط والتنمية وإدارة الدولة الحديثة
* هذا المقال جزء من دراسات رؤية ولاية الخرطوم- مطار الخرطوم إلى مطارات السودان الإنتاجية.