الصحة النفسية كاستراتيجية لإعمار الإنسان: من القلق الفردي إلى التنمية الشاملة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

الصحة النفسية كاستراتيجية لإعمار الإنسان: من القلق الفردي إلى التنمية الشاملة
لم تعد الصحة النفسية مجرد شأن خاص بالفرد، بل تحولت إلى قضية استراتيجية ذات أبعاد علمية واقتصادية واجتماعية وإدارية وقانونية. فالقلق المستمر، والتفكير السلبي، والمشكلات النفسية التي يعانيها الأفراد ليست ظواهر منعزلة، وإنما انعكاس لفجوات في أنظمتنا التعليمية والاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن إدارتها بطريقة علمية متكاملة يمكن أن تجعلها مدخلًا لإعمار الإنسان وتعزيز التنمية.
القلق المستمر يُفهم علميًا على أنه خلل في أنماط التفكير الاستباقي، حيث يبالغ الفرد في التوقعات ويفقد التوازن بين الحاضر والمستقبل. المعالجة تبدأ من إعادة الهيكلة المعرفية، وممارسة تمارين التنفس العميق، والرياضة، والنوم المنتظم. وعلى مستوى استراتيجي، يمكن تشبيه الفرد بالمؤسسة: إذا لم تخضع الأفكار لمراجعة دورية، ستتحول إلى أعباء تعطل الأداء.
أما التفكير السلبي، فهو ليس عيبًا فرديًا بقدر ما هو انعكاس لثقافة بيئية. استبداله يتطلب التدريب على التفكير النقدي الإيجابي، والانتقال من عقلية العجز إلى عقلية الحلول. المؤسسات الاقتصادية الناجحة تطبق هذا المبدأ عبر الابتكار المستمر، والفرد بدوره يحتاج إلى إدارة عقلية قائمة على التغذية الراجعة والتصحيح الذاتي.
مساندة الأقرباء الذين يعانون من مشكلات نفسية تحتاج إلى بعد إنساني قائم على الاستماع والدعم، وبعد مؤسسي قائم على التشبيك مع الاختصاصيين. وهنا تلتقي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية؛ إذ أن تكلفة الإهمال النفسي تنعكس مباشرة في ضعف الإنتاجية وزيادة الغياب المرضي. من الناحية القانونية، بدأت دول كثيرة بسن تشريعات تعترف بالصحة النفسية كحق أساسي، ما يفرض على المؤسسات التعليمية وأماكن العمل توفير برامج دعم متكاملة.
العادات اليومية تمثل خط الدفاع الأول عن الصحة النفسية: ممارسة الرياضة، الغذاء الصحي، النوم المنتظم، تنظيم الوقت، التأمل أو الصلاة، تنمية العلاقات الاجتماعية، والقراءة أو التعلم المستمر. هذه العادات ليست مجرد سلوكيات شخصية، بل استثمار استراتيجي في رأس المال البشري.
دبلوماسيًا، بات التعاون الدولي في مجال الصحة النفسية ضرورة، مع ما تشهده المجتمعات من نزاعات وحروب وكوارث. تقارير الأمم المتحدة و”منظمة الصحة العالمية” توضح أن تعزيز الصحة النفسية يضاعف فرص تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا الهدف الثالث (الصحة الجيدة والرفاه) والهدف الرابع (التعليم الجيد).
توصيات استراتيجية
1. إدماج الصحة النفسية في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة، باعتبارها جزءًا من التربية الشاملة.
2. تطوير برامج دعم نفسي مؤسسي في المدارس والجامعات وأماكن العمل، للوقاية قبل العلاج.
3. اعتماد التشريعات الوطنية التي تضمن الحق في الصحة النفسية، وتكفل حماية المصابين من التمييز.
4. الاستثمار الاقتصادي في الصحة النفسية عبر برامج وطنية تقلل من الخسائر الناتجة عن الغياب وضعف الإنتاجية.
5. تعزيز الثقافة المجتمعية حول قيمة الاستشارة النفسية، لكسر وصمة العار الاجتماعية.
إن التعامل مع القلق والتفكير السلبي والدعم النفسي ليس مجرد استجابة لمشكلات آنية، بل هو استثمار في المستقبل. الصحة النفسية أساس لصناعة الإنسان المتوازن القادر على الإنتاج، وبدونها تفقد الاستراتيجيات التنموية معناها. فإعمار الأوطان يبدأ من إعمار العقول والقلوب، وهنا تتجلى فلسفة أن الإنسان هو الأصل والغاية والوسيلة في كل مشروع حضاري.