مقالات

الشيخوخة الفكرية: كيف نصنع العمر بالحياة لا بالأرقام؟

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الشيخوخة الفكرية: كيف نصنع العمر بالحياة لا بالأرقام؟

العمر ليس مجرد رقم يُكتب في شهادة الميلاد، بل هو حالة ذهنية وطاقة فكرية تحدد كيفية تعامل الإنسان مع ذاته ومع العالم من حوله. كثير من الناس يتوقفون عند سن معينة ويبدأون في ترديد عبارات مثل “كبرنا” أو “انتهى العمر”، فيتحول هذا التفكير السلبي إلى قوة جاذبة للشيخوخة المبكرة. فالفكرة تصنع الواقع، والجسم يتبع الفكرة حتى على مستوى الخلايا والجينات.

إن ما يُعرف اليوم في الأوساط العلمية بـ “علم ما فوق الجينات” (Epigenetics) يؤكد أن الجينات ليست قدَرًا محتومًا، وإنما تتأثر بالبيئة والأفكار والعادات اليومية. فالفرد لا يمرض لأن جيناته حكمت عليه بالمرض، بل لأنه تبنّى أنماط تفكير وعادات حياتية جعلته أكثر عرضة لاستقبال المرض. وقد لخّص الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة العلمية بقوله: “لا تَمَارَضوا فَتَمرَضوا”، أي أن الفكرة السلبية عن المرض قد تصبح سببًا للمرض نفسه.

الشيخوخة الحقيقية تبدأ بالفكر. فعندما يقتنع الإنسان أنه أصبح كبيرًا في العمر، فإنه يرسل إشارة إلى جسده بالتراجع والتوقف. والعكس صحيح، فحين يقرر أن يعيش حياته بحب وشغف ونشاط، يصبح العمر مجرد رقم لا يقيّده. فهناك من تجاوزوا السبعين والثمانين ولا يزالون يملأون حياتهم بالعمل والإبداع، بينما نجد آخرين في الخمسين وقد استسلموا للكسل والأمراض.

إن العمر يمكن تمديده ليس فقط بالسنوات، بل بنوعية الحياة. فالأبحاث العلمية تؤكد أن العادات اليومية قادرة على إطالة العمر البيولوجي، أي العمر الذي يعكس صحة الخلايا والأعضاء، بغض النظر عن الرقم الزمني في البطاقة. ممارسة الرياضة بانتظام، التغذية المتوازنة، النوم الكافي، والتفكير الإيجابي جميعها أدوات لإبطاء الشيخوخة الخلوية. كما أن حب الحياة يمثل وصفة سرية لإطالة العمر. من يحب عمله، من يحافظ على صداقاته، من يتعلم أشياء جديدة باستمرار، هو في الحقيقة يضيف سنوات إلى عمره النوعي حتى لو لم يضفها إلى عمره الزمني.

بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن الأشخاص المتفائلين يعيشون أطول بحوالي 10 سنوات في المتوسط من غيرهم. هنا يصبح “التفاؤل” و”حب الحياة” بمثابة دواء استراتيجي مجاني يعيد للإنسان شبابه ويمنحه عمرًا أطول وأجمل.

الأمثلة الحية خير دليل على أن العمر لا يحدد بالعقود الزمنية. فالكاتبة اليابانية “تسوجي موتو” واصلت كتابة مؤلفاتها الأدبية حتى بلغت التسعين، وظلت تُلقي المحاضرات عن الإبداع وحب الحياة، مؤكدة أن العقل لا يشيخ إلا إذا استسلم للفكرة. وفي الولايات المتحدة، عُرفت العدّاءة “إيديث كونور” التي بدأت ممارسة الرياضة بعد سن السبعين، لتصبح في عمر التسعين أيقونة للحيوية وهي تحصد البطولات. وفي السودان، نجد نماذج حية لأساتذة جامعات وأطباء ومزارعين ظلوا يعملون ويبدعون حتى العقد التاسع من أعمارهم، مؤكدين أن العطاء لا يرتبط بسن بل بفكرة.

الانعكاسات الاستراتيجية

هذا المفهوم له انعكاسات استراتيجية على المجتمع والاقتصاد والإدارة. فالمجتمعات التي تستثمر في رفع الوعي الصحي والفكري لمواطنيها تقل فيها تكاليف الرعاية الصحية، وتزداد إنتاجية الأفراد حتى في الأعمار المتقدمة. كما أن المؤسسات التي تمنح كبار السن فرصًا للتعلم والعمل التطوعي والاستفادة من خبراتهم، تبني اقتصادًا أكثر استدامة قائمًا على الدمج لا الإقصاء.

من الناحية الاجتماعية، فإن دعم ثقافة “العمر بالحياة” يساهم في الحد من العزلة والاكتئاب، ويمنح الأفراد شعورًا بالقيمة والانتماء. ومن الناحية الإدارية، يمكن تصميم برامج مرنة للتقاعد التدريجي تسمح للموظفين بنقل خبراتهم للأجيال الجديدة بدلًا من الخروج المفاجئ من سوق العمل. أما من الزاوية الدبلوماسية، فإن الدول التي تستثمر في رفاهية كبار السن وتحسين نوعية حياتهم تقدم صورة إيجابية عن نفسها وتكسب احترامًا دوليًا.

قانونيًا، يمكن للمشرّعين سن قوانين تحفّز المؤسسات على تشغيل ذوي الخبرة، وتمنح مزايا ضريبية للشركات التي توفر برامج صحية ورياضية وتعليمية لموظفيها، وتؤسس مظلة حماية اجتماعية متوازنة تضمن كرامة الإنسان في جميع مراحل عمره.

إن التجارب العالمية تثبت أن العمر ليس عائقًا أمام العطاء. ففي اليابان على سبيل المثال، يشارك كبار السن في قطاعات واسعة من الاقتصاد، مستفيدين من برامج “الشيخوخة النشطة”. وفي أوروبا، تنتشر مبادرات “التعلم مدى الحياة”، حيث يتاح لكبار السن الالتحاق ببرامج تدريبية جامعية ومهنية. وفي إفريقيا، هناك مجتمعات ما زالت ترى في كبار السن مصادر حكمة وقيادة روحية واجتماعية، مما يعزز تماسكها واستقرارها.

وبالنظر إلى السودان، فإن استثمار طاقات كبار السن يمثل فرصة اقتصادية واجتماعية هائلة. فبدلًا من اعتبارهم عبئًا على المجتمع، يمكن دمجهم في برامج استشارية، ومشروعات إنتاجية صغيرة، ومبادرات تعليمية وصحية، بما يعزز من قيم التكافل ويقلل من الضغوط الاقتصادية.

التوصيات

1. تعزيز الوعي الصحي والفكري بأن العمر حالة ذهنية وليس رقمًا جامدًا.

2. تصميم برامج وطنية للشيخوخة النشطة تشمل الرياضة، التغذية، والتعلم المستمر.

3. تطوير تشريعات مرنة للتقاعد تسمح باستثمار خبرات كبار السن بدلًا من تهميشهم.

4. تشجيع القطاع الخاص على توفير بيئة عمل صحية وحوافز للموظفين الأكبر سنًا.

5. إطلاق مبادرات مجتمعية لدمج كبار السن في الأنشطة الثقافية والاجتماعية.

6. الاستفادة من علم ما فوق الجينات عبر برامج تدريب وتثقيف صحي تسهم في تحسين نوعية الحياة.

7. نشر ثقافة إطالة العمر البيولوجي من خلال الرياضة، الغذاء المتوازن، وإدارة التوتر.

8. تعزيز قيم حب الحياة والتفاؤل كجزء من التربية والثقافة الوطنية.

في النهاية، الشيخوخة ليست بداية النهاية، بل يمكن أن تكون بداية مرحلة جديدة مليئة بالإنجازات إذا ما تبنّى الإنسان الفكر الإيجابي وحب الحياة. إن العمر الحقيقي هو ما نملأ به أيامنا من معنى وقيمة، وما نتركه وراءنا من أثر وبصمة، وهو الطريق الأجمل لزيادة أعمارنا والاستمتاع بالحياة حتى آخر لحظة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى