مقالات

المؤسسات المحوكمة: مدخل للجودة وبناء الدولة

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

المؤسسات المحوكمة: مدخل للجودة وبناء الدولة

لقد عُرف السودانيون عبر التاريخ الحديث بالكفاءة العالية في مختلف المجالات، التعليمية منها والمهنية. فمن التدريس في أرفع الجامعات العالمية، إلى الريادة في الطب والهندسة والتخطيط العمراني والاقتصاد، أثبتت الكوادر السودانية جدارتها حين وُضعت في بيئات مؤسسية سليمة، قائمة على سيادة القانون، وضبط الجودة، وقيم العمل المؤسسي. هذه الحقيقة وحدها كافية لتبرهن أن الأزمة السودانية لم تكن يومًا أزمة عقول أو قدرات، بل أزمة مؤسسات.

المؤسسة المحوكمة ليست مجرد لائحة تنظيمية أو مبنى إداري، بل هي منظومة متكاملة تجمع بين الشرعية (قانونًا ودستورًا)، والفاعلية (كفاءة التنفيذ)، والجودة (إتقان الأداء والالتزام بالمعايير)، والشفافية (وضوح الإجراءات وإمكانية المساءلة). إن وجود هذه الأركان يضمن تحويل الرؤية إلى سياسة، والسياسة إلى قرار، والقرار إلى ممارسة منتجة ذات أثر ملموس.

إن التجارب الدولية تثبت أن جودة المؤسسات هي الفارق الأكبر بين الدول المتقدمة والدول المتعثرة. ففي سنغافورة مثلًا، لم تكن الثروة الطبيعية أو وفرة الموارد هي سر النهضة، وإنما الانضباط المؤسسي، والحوكمة الصارمة، وإعلاء مبدأ الجودة في الخدمة العامة. وكذلك في رواندا، التي خرجت من حرب أهلية مدمرة، لتصبح خلال عقدين نموذجًا إفريقيًا للحوكمة الرشيدة والإدارة الفعالة.

أما في السودان، ورغم توفر الرؤى والخطط، بل وحتى الاستراتيجيات القومية الطموحة مثل الاستراتيجية ربع القرنية (2007–2031م)، ظل التنفيذ يتعثر بسبب غياب المؤسسات الجيدة. فالقوانين توضع، ولكن لا تجد مؤسسات مؤهلة لتطبيقها. والسياسات تُعلن، ولكنها لا تُترجم إلى نتائج على الأرض لغياب البنية المؤسسية التي تضمن الاستمرارية والالتزام بمعايير الجودة.

إن الجودة في المؤسسات معيار وجود وبقاء. فهي التي تحدد ما إذا كان القرار سيؤدي إلى التنمية والإصلاح، أم سيتحول إلى عبء جديد يزيد من التدهور. والجودة لا تُختزل في تحسين الإجراءات أو تقليص الهدر فقط، وإنما هي فلسفة شاملة تضمن أن كل مدخلات العمل (موارد، كفاءات، قوانين) تتحول إلى مخرجات نافعة تخدم المواطن.

إن بناء المؤسسات المحوكمة في السودان يتطلب:

1. إرادة سياسية وقانونية لتثبيت الشرعية وتعزيز سيادة القانون.

2. استقلالية وشفافية تقي المؤسسات من التدخلات الشخصية والولاءات الضيقة.

3. آليات رقابة ومساءلة تضمن أن كل قرار يمكن تقييمه ومراجعة أثره.

4. اعتماد معايير الجودة في الأداء المؤسسي، بما يشمل التخطيط، التنفيذ، المتابعة، والتقييم.

5. الاستثمار في رأس المال البشري، وهو ما يملكه السودان بوفرة، حيث أثبت السودانيون في الخارج أنهم قادرون على الإبداع حين يجدون بيئة مؤسسية سليمة.

وبغير هذه الأسس، سيظل المشهد كما هو: خطط بلا تنفيذ، قوانين بلا تطبيق، وكفاءات بلا استثمار. وكما أن المزارع لا يجني من الشوك عنبًا، فإن الدولة لا تجني من المؤسسات المعتلة سياسات أو قرارات نافعة. ولا يُنتظر من الأرض المالحة أن تنتج قمحًا.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى