
العدل أساس البناء المؤسسي
العدل ليس قيمة أخلاقية مجردة، بل هو الإطار الذي تنتظم داخله الدولة والمجتمع. إنه القاعدة التي ينهض عليها أي نظام حضاري، والعصب الذي يمنح المؤسسات قوتها وشرعيتها. فحين يُطبَّق القانون على الجميع دون استثناء، ويقتص للضعيف من القوي، تتأسس الثقة بين المواطن ومؤسساته، وتنشأ علاقة صحية بين السلطة والمجتمع، فينمو الإنتاج وتستقر التنمية.
تجارب الأمم المتقدمة تثبت أن العدالة ليست قرارًا ظرفيًا، بل خيارًا استراتيجيًا طويل المدى. فغياب العدالة يولّد الفوضى ويُضعف الإنتاجية، بينما ترسيخ العدالة يصنع النظام ويطلق الطاقات الكامنة. لذلك، ارتبط صعود بعض الدول في فترات زمنية وجيزة بقدرتها على تأسيس مؤسسات قانونية محايدة، تمنع تغول السلطة وتكبح تجاوز الأفراد والجماعات.
العدالة الاقتصادية لا تعني المساواة في الثروات فقط، بل تعني عدالة الفرص: فرص التعليم، فرص العمل، فرص الاستثمار. وحين تغيب هذه العدالة، تتسع الفوارق الطبقية وتتفشى البطالة، مما يخلق بيئة طاردة للكفاءات ويقوّض أي مشروع تنموي. أما حين تُبنى السياسات الاقتصادية على العدالة، فإن الثروة تصبح وسيلة لتمكين المجتمع لا لتعميق انقساماته.
العدالة الاجتماعية تعني أن يشعر كل فرد بأنه جزء من العقد الاجتماعي، وأن حقوقه مصونة مهما كان موقعه. هي التي تدمج الفئات الضعيفة والهامشية في العملية التنموية، وتجعلها قوة منتجة بدلاً من عبء على الدولة. بدونها، يصبح المجتمع منقسمًا بين قلة نافذة وغالبية مهمشة، فتتسع فجوة الثقة وينهار التضامن الاجتماعي.
لا يمكن لأي جهاز إداري أن يحقق أهدافه إذا غابت العدالة في التعيين والترقية والتقييم. حين تُستبعد الكفاءات لصالح الولاءات والمحسوبيات، تتحول الخدمة العامة إلى عبء لا إلى رافعة للتنمية. العدالة الإدارية تعني تكليف الأكفأ بالمهام، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وجعل الوظيفة أداة خدمة لا امتيازًا شخصيًا.
حتى في العلاقات الدولية، العدالة مبدأ حاكم. فالدول التي تبني سياساتها الخارجية على الاحترام المتبادل تحقق استقرارًا أطول ومكانة أعلى. أما حين تتعامل مع الشعوب باستعلاء أو ازدواجية، فإنها تخسر نفوذها الأخلاقي وتضعف قدرتها على التأثير. العدالة الدبلوماسية هي أساس بناء شراكات متوازنة ومستدامة.
العدالة ليست قيمة مثالية بعيدة المنال، بل هي أداة عملية لبناء الدول واستدامة المؤسسات. وحين تتخلى الشعوب عن المطالبة بها، فإنها تفتح الباب لصناعة “فراعنة” جدد، وتساهم في إعادة إنتاج الاستبداد بأشكال مختلفة. لذلك فإن العدالة مسؤولية جماعية، تبدأ من الفرد وتنتهي بالدولة.
التوصيات:
1. إصلاح تشريعي مؤسسي: مراجعة القوانين لضمان تطبيقها على الجميع دون استثناء، وإزالة الثغرات التي تسمح بالتحايل أو الاستثناءات.
2. إرساء عدالة الفرص: تصميم سياسات اقتصادية تتيح فرصًا متكافئة للتعليم والعمل والاستثمار، مع دعم الفئات الأكثر هشاشة.
3. تعزيز الشفافية والمساءلة: بناء آليات إدارية وقضائية مستقلة لمحاسبة المسؤولين بغض النظر عن مواقعهم.
4. تمكين العدالة الاجتماعية: دمج الهامش والمجتمعات الأقل حظًا في العملية التنموية عبر برامج إنتاجية لا إعانات استهلاكية.
5. بناء ثقافة العدالة: إدخال قيم العدالة في المناهج التعليمية والإعلام والخطاب العام لترسيخها في الوعي الجمعي.
6. العدالة كرافعة دبلوماسية: تبني خطاب دولي يعكس احترام الشعوب وحقوقها، مما يعزز صورة الدولة ومصالحها الاستراتيجية.
العدل، ثم العدل، ثم العدل… ليس شعارًا بل منظومة متكاملة، إذا غابت انهارت الدولة، وإذا حضرت ارتقت الأمة.