
من لوني إلى بانكيو: حكاية الغابات في السودان
• أحياناً تتلخص الحكاية كلها في تفاصيل صغيرة، كلمة خاطفة، أو عبارة موجزة أو موقف وجيز.
• حدّث أبو الغابات كامل شوقي أنه عند تسلّمه إدارة الغابات من مدير العهد الاستعماري، مستر مارشبانكس، قال له مارشبانكس وهو يودّعه بلا رجعة: “السنة الجاية يلزم أن نزرع المربوع رقم خمسة في لوني”.
• لم يقل لي “يلزم أن تزرع” بصفة الأمر الشخصي، بل “نزرع” بصيغة الجمع، يقول كامل شوقي.
• هذه العبارة تجسّد روح المسؤولية المشتركة والاستمرارية المؤسسية، لمارشبانكس حتى وهو يغادر نهائياً.
• هكذا غدت الوصية، في تفاصيلها الصغيرة، نموذجاً عملياً لفلسفة الغابات القائمة على الانضباط المهني والنزاهة الأخلاقية والأمانة، إذ لم تكن مجرد تعليمات عملية، بل انعكاساً لرؤية طويلة المدى تربط بين الإدارة الدقيقة، احترام النظام، والحفاظ على الموارد.
• كما تكشف هذه الوصية من الناحية المهنية، حرصاً على الاستمرارية والرؤية الاستراتيجية، ولتتجاوز الشخص المغادر وتبقى جزءاً من روح الغابة نفسها، حتى عند انتقال المسؤولية بين العهود السياسية المختلفة.
• كانت غابة لوني، في نواحي النيل الأزرق، إحدى النماذج الحية لذلك النهج، إذ أُديرت بمنهج صارم يقوم على تقسيمها إلى مربعات لضبط الإنتاج ومتابعة كل قطعة على حدة.
• وهو نظام مكّن الإدارة من التخطيط بعناية لكل خطوة مستقبلية بما ينسجم مع رؤية طويلة المدى للحفاظ على الغابات واستدامتها.
• فكانت حادثة غابة لوني، رغم صغرها، نموذجاً لكيف تُمارس الإدارة المستدامة لموارد الغابات.
• وبالمقابل، برزت صورة معاكسة تماماً في العهد الوطني تمثلت في حادثة غابة بانكيو في نواحي ولاية الجزيرة عند مدخل عاصمتها مدينة ود مدني من الناحية الشرقية.
• يروي أبو الغابات أنه ما إن تقلّد مهام إدارة الغابات، بعد وقت وجيز من مغادرة المستعمر، حتى جاءه صوت رئيس وزراء السودان المستقل عبر الهاتف آمراً بمنح غابة بانكيو لشيخ محلي.
• رغم احترامه لمقام رئيس الوزراء، ظل أبو الغابات ثابتاً على مبدئه: الموارد العامة لا تتحول إلى عطايا خاصة.
• وتكرر ذات الموقف مع ثاني رئيس وزراء بعد الاستقلال، الذي أعاد بدوره منح الغابة للشيخ المحلي.
• هذا الأمر يوضح بجلاء التباين الجوهري في النظرة إلى الغابات؛ بين الاعتبارات السياسية والاجتماعية التي برزت في العهد الوطني، والانضباط المهني والتخطيط الاستراتيجي اللذين طبعا الإدارة الاستعمارية.
• هذا النهج، للأسف، لم يكن استثناءً بل أصبح السمة الغالبة في التعامل مع الغابات منذ الاستقلال وحتى اليوم، والشواهد عليه أكثر من أن تحصى.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.