
النموذج الصيني: إلهام استراتيجي للتنمية الريفية المتكاملة
تكاد لا تخلو دولة من دول العالم النامي من التجارب الناجحة مثل تعاونيات “أناند” للألبان في الهند، ووحدة “شلالو” للتنمية الزراعية في إثيوبيا، وغيرها من التجارب الرائدة. غير أن أنجح هذه التجارب يتمثل في النموذج الصيني، بما انطوى عليه من قدرة على توظيف الموارد البشرية والطبيعية، وبناء منظومة متكاملة للتنمية الريفية.
أولاً: تحريك الأيدي العاملة
نجح النموذج الصيني في استيعاب طاقات العاطلين عبر مشروعات واسعة لتحسين الأرض، وبناء السدود والخزانات، وحفر قنوات الري، وتشيد الطرق، واعتماد الزراعة المكثفة. ونتيجة لذلك تضاعف إنتاج المزارع الصينية مقارنة بنظيراتها في الهند وباكستان، وقفز إنتاج الحبوب من 158 مليون طن في عام 1949م إلى 246 مليون طن في أوائل السبعينيات. ومع ازدياد عدد السكان من 800 مليون نسمة في السبعينيات إلى أكثر من 1300 مليون نسمة اليوم، استطاعت الصين تحقيق الاكتفاء الذاتي والفائض الغذائي.
ثانياً: تنمية المجتمعات الريفية وتنوع الأنشطة
اعتمدت الصين على تنويع الاقتصاد الريفي بين الزراعة، والغابات، والثروة السمكية، والصناعات الصغيرة، مما ساهم في امتصاص البطالة وزيادة الإنتاجية، وخلق قاعدة إنتاجية متكاملة تدعم استدامة التنمية.
ثالثاً: التكوين الرأسمالي الريفي
ابتكرت الصين نموذجًا فريدًا بتحويل ما بين 15% إلى 85% من الدخل الريفي إلى صندوق تمويلي، وُجه للاستثمارات الإنتاجية في الصناعات الريفية والتخزين والتسويق. كما عملت الحكومة على رفع أسعار المنتجات الريفية، بحيث تعزز القوة الشرائية للمزارعين، وتزيد جاذبية الأنشطة الزراعية.
رابعاً: الخدمات المجتمعية
ساهم المجتمع المحلي مباشرة في بناء المدارس والمستشفيات وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، عبر المدخرات الذاتية وليس بالاعتماد على الدولة وحدها، مما عزز روح المشاركة والمسؤولية المشتركة.
خامساً: التخطيط اللامركزي
اعتمد النموذج الصيني على التخطيط من أسفل إلى أعلى، بمشاركة المجتمعات الريفية في تحديد أولوياتها، واستغلال مواردها المحلية بكفاءة، وهو ما ميز التجربة الصينية عن النماذج المركزية في بقية الأقطار.
سادساً: البعد السياسي والاجتماعي
احتل الريف موقعًا استراتيجيًا داخل النظام الصيني، ليس فقط كقاعدة إنتاجية، بل كمحرك للتطور الاجتماعي، بهدف بناء مجتمع متماسك خالٍ من الطبقات، وتقليل الفوارق، ورفع مستوى الوعي، مع تحقيق نمو مادي متوازن يلبّي الاحتياجات الأساسية، دون الانزلاق إلى ثقافة الاستهلاك المفرط.
إن تفرد النموذج الصيني ينبع من توازن دقيق بين المحفزات المادية وبين الالتزام الإيديولوجي والتنظيمي، حيث لم يكن الدافع المادي وحده هو المحرك للتنمية، بل انصهر مع منظومة قيمية ومؤسسية تجعل من التنمية الريفية مشروعًا جماعيًا مستدامًا.
توصيات عامة مستخلصة من التجربة الصينية
1. توطين التخطيط اللامركزي عبر إشراك المجتمعات الريفية في تحديد أولوياتها، بدلاً من الاعتماد على القرارات المركزية البعيدة عن الواقع.
2. تنويع الأنشطة الريفية لتشمل الزراعة، الثروة الحيوانية، الغابات، الصناعات الصغيرة والخدمات، بما يضمن استيعاب البطالة ورفع الإنتاجية.
3. إيجاد صناديق تمويل ريفية تستمد مواردها من نسبة من الدخل المحلي، لتوجيهها إلى الاستثمار في الصناعات والخدمات الريفية.
4. تحفيز الإنتاج الزراعي عبر سياسات عادلة للتسعير والتسويق، بما يضمن دخلًا مجزيًا للمزارعين.
5. تعزيز دور المجتمع المحلي في بناء الخدمات الأساسية من تعليم وصحة، وتشجيع الشراكات المجتمعية في التنمية.
6. إعطاء الريف موقعًا مركزيًا في الاستراتيجيات الوطنية باعتباره قاعدة الأمن الغذائي والتنمية البشرية والاجتماعية.
7. الاهتمام بالعنصر البشري بوصفه رأس المال الأهم في التنمية، من خلال التدريب، والوعي، وتنمية القدرات الريفية.
بهذه الرؤية، يمكن للدول النامية أن تستلهم من التجربة الصينية مداخل استراتيجية لتحقيق التنمية الريفية الشاملة، بعيدًا عن التقليد الأعمى، وبما يتناسب مع خصوصياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.