
الفاشر… قلب إفريقيا النابض ومفتاح الأمن الاستراتيجي الإقليمي
حين تتقاطع الجغرافيا مع الجيواستراتيجية، تصمت العواصم وتنطق الأطراف.
في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، يُعاد اليوم طرح سؤال مركزي: لماذا الفاشر؟
الإجابة لا تكمن فقط في موقعها الجغرافي، بل في ما تمثله من حلقة وصل استراتيجية بين شمال القارة وجنوبها، وبين الشرق والغرب، حيث تشكّل قلب إفريقيا الجغرافي، ونقطة الارتكاز في أي منظومة تنموية أو اقتصادية كبرى على مستوى الإقليم.
عند إسقاط خطوط الطول والعرض على خريطة إفريقيا، نجد أن الفاشر تقع على مسافة متساوية تقريبًا بين بورسودان (البحر الأحمر) والمحيط الأطلسي، ومن جهة أخرى بين البحر المتوسط شمالًا والمحيط الهندي عند كيب تاون جنوبًا.
هذا التموقع يمنحها مؤهلات فريدة للتحوّل إلى مركز لوجستي وتنموي ضمن رؤى التكامل القاري، كما تدعو إليه الاستراتيجية ربع القرنية السودانية 2007–2031م، وأهداف التنمية المستدامة الـ17 المعتمدة دوليًا.
ولا تنفصل هذه الرؤية الجغرافية عن الامتداد التاريخي العميق للمدينة؛ إذ كانت عاصمة سلطنة دارفور المستقلة، ومركزًا حيويًا للتبادل التجاري والثقافي بين ضفاف إفريقيا، واشتهرت تاريخيًا بدورها في تجهيز المحمل السنوي للحج، وبما يمثله قدح الميرمية كرمز تراثي للكرم والحكمة والتماسك المجتمعي.
كما أن الفاشر تزخر بـثروات معدنية طبيعية لم تُستثمر بعد بالشكل الأمثل، ما يعزّز مكانتها في الخارطة الاقتصادية التنموية الوطنية والإقليمية، ويجعلها مرشحة للاضطلاع بأدوار أكبر في المرحلة القادمة.
أما على مستوى البنية التحتية، فيتميّز مطار الفاشر بوجود مهبطين للطائرات، ما يجعله نادرًا في السياق الإفريقي، ومؤهلًا ليكون مركزًا للنقل الجوي والربط القاري.
وتطوير هذا المرفق يجب أن يتم ضمن مشروع سيادي ينسجم مع الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة (الصناعة والابتكار والبنية التحتية)، ومع مسارات الربط الإقليمي التي تتبناها برامج الاتحاد الإفريقي.
لقد أثبتت التجربة التنموية في كثير من الدول أن التركيز على العواصم وحدها لا يكفي لتحقيق التوازن المجتمعي، إذ إن التنمية العادلة تتطلب إحياء الأطراف وربطها بالفرص الكبرى.
وفي هذا السياق، تبرز الفاشر كنموذج لموقع يمكن أن يتحوّل إلى قطب تنمية إقليمي يرتبط بدول الجوار (تشاد، إفريقيا الوسطى، النيجر) ويخدم عمق السودان الغربي.
ومن هذا المنطلق، يُقترح تأطير الفاشر كمنطقة ذات أولوية تنموية ممتدة، تُخدم بالمؤسسات والخدمات، وتُعزّز بتمكين المجتمعات المحلية، وفق الرؤية التي تكرّسها أهداف:
الهدف 16 (السلام والعدل والمؤسسات القوية)،
والهدف 11 (مدن ومجتمعات مستدامة).
كما أن مراجعة عدة تقارير إقليمية ودولية أظهرت إدراج الفاشر ضمن المدن ذات الإمكانات العالية، نظرًا لموقعها الوسيط بين البحر الأحمر وداخل إفريقيا.
وهذا يمنحها القدرة على لعب أدوار محورية في مشروعات الربط الكهربائي، والبنية التحتية العابرة، والأسواق الحدودية، إذا ما تم تضمينها رسميًا في خطط التنمية القارية (2030 و2063).
ما تمر به الفاشر من تحديات لا يعكس ضعفًا ذاتيًا، بل يشير إلى فجوة في الاهتمام المتوازن، وحاجة ملحة إلى رؤية وطنية تنموية متكاملة تُنزل الثقل التنموي إلى حيث توجد المقومات الحقيقية للنمو.
وقد برهنت التجربة أن الفاشر ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل مجتمع نابض بالحيوية، وقادر على المساهمة في بناء مشروع وطني شامل، إذا ما تم توجيه الموارد نحو بناء قدراته وتعزيز بنيته الأساسية.
توصيات استراتيجية:
1. إدراج الفاشر رسميًا ضمن أولويات خطط التنمية المتوازنة وإعادة الإعمار.
2. تحويل مطار الفاشر إلى مركز إقليمي للنقل الجوي والخدمات اللوجستية.
3. إنشاء مركز وطني للبحث الجغرافي والاستراتيجي يُعنى بدراسة الفاشر والمناطق المشابهة.
4. ربط الفاشر بالمشروعات القارية الكبرى (طرق، سكك حديد، ألياف ضوئية) وفق رؤية 2030 و2063.
5. إعداد تشريع خاص يضمن الحماية القانونية والتنموية للمواقع ذات الأهمية الجغرافية الخاصة.
ليست الفاشر مجرد جغرافيا… إنها رسالة استراتيجية، ونقطة انطلاق لمعادلة تنموية جديدة، وقلب إفريقيا النابض إن أردنا فعلاً العدالة المكانية.
فلتكن الفاشر مشروعًا تنمويًا يعكس عدالة المكان، وكرامة الإنسان، وقوة الرؤية الوطنية المتوازنة.