
بحر أبيض: مرآة السودان وميزانه
• إن سألت عن البدايات، فابحث عنها عند بحر أبيض؛ هناك تفتحت أولى الحكايات، ونمت بذور الوعي، ومن هناك مشى السودان أولى خطواته في التاريخ.
• فمن غابة الغار بالجزيرة أبا، انطلقت شرارات الثورة المهدية في يوم الجمعة الموافق 19 أغسطس 1881م.
• ومن الدويم، وبشعار التمساح، كانت بحر أبيض من أولى المديريات في العام 1904.
• وفي عام 1902 تأسست في الكوة أول مدارس التعليم المؤسسي والنظامي في السودان.
• وفي عام 1934 أنشئت بخت الرضا كأول مدرسة لتدريب المعلمين على مستوى السودان.
• وفي عام 1942 انطلقت إلى قرية الكنوز ببحر أبيض أولى رحلات مؤتمر الخريجين للأقاليم.
• وفي بداية القرن العشرين برزت خلوة الشيخة أمونة بت عبود ببحر أبيض، كأول مؤسسات التعليم أهلي للبنات في السودان.
• ومن بحر أبيض سجّلت بتول بت محمد عيسى، (بتول الشايقية)، أول مشاركة نسوية في دعم الثورة المهدية بالتمريض والتموين.
• وفي عام 1926، حجزت غابة لكاداوية، أول غابة مديريات في تاريخ السودان.
• وفي عام 1929، سجلت غابة نابره، أول غابة مركزية تسجل في السودان.
• وفي 1933م، شيد خزان جبل أولياء، أول سد يشيد على مجرى النيل الأبيض، وفي السودان.
• وفي ثلاثينيات القرن الماضي انطلقت من بحر أبيض أولى الشراكات الزراعية المجتمعية، بين ملاك الأراضي ورجال الاعمال في السودان.
• ومن ميناء كوستي النهري، الميناء النهري الأكبر في السودان، انطلقت عام 1938 أول شركة نقل نهري منظمة لخدمة جنوب السودان.
• هكذا ظل بحر أبيض رائداً؛ في الثورات، وفي التعليم، كما كان سبّاقاً في إدارة موارده الطبيعية من زراعة وغابات ومياه، والشراكات المجتمعية التنموية.
• ولم تقف ريادته عند ذلك الحد، بل انعكست أيضاً في وجدان الناس، حيث تداخل الغناء مع المواصلات، ليصنع ملامح هوية ثقافية مميزة.
• فمن الاسكلا، بالبابور ومن قمرة إتنين دور، مروراً بالقطينة عشا، حتى كوستي والجبلين. ثم بالبص الفاخر السريع برّاً من الخرطوم، عابراً الجبل، وفي دقائق حالاً وصل ود الزاكي محل الوحيل، والهشابة ساعة المقيل، فالكوة والكنوز، ثم جزيرة أبا والإمام حتى ربك حيث رحلتنا انتهت.
• ومن هنا يمكن فهم، أن رحلات بحر أبيض لم تكن انتقالاً في الجغرافيا فحسب، بل عبوراً في الذاكرة ووجدان الناس؛ لذلك ظل بحر أبيض فضاءً حيّاً يجسّد روح التعايش والتنوع السوداني.
• فمن رحم هذا التعايش والتنوع نشأ عمران القرى والحلال والمدن في بحر أبيض؛ ببدايات بسيطة وعفوية: بفرد يستقر، ثم ما تلبث أن تنمو نواة مجتمعية صغيرة حوله، ومع الزمن تغدو حاضنة كبيرة وواسعة ومتماسكة.
• فقرية الصوفي، مسقط رأس صديقي أحمد حميدة، أبشنب، في شمال بحر أبيض، سُمّيت على رجل آثر العزلة للتعبّد، فعُرف بالصوفي. وكان الناس يمرون به في رحلاتهم، فينزل بعضهم بالقرب منه، ثم يرحلون، وقد لا يعودون، أو يأتي بعدهم آخرون.
• وقرية ود نمر المجاورة لها، والأثنان هما كالعينين في الرأس الواحد في عُرف أبشنب، لا يُفصل بينهما، كانت في بدايتها تُعرف بـ”بيت نمر”، ثم تحولت إلى “أولاد نمر”، وبعدها إلى حلة نمر، ثم على اسم مؤسسها ود نمر، الذي ذاع صيته أكثر من والده نمر بعد أن عُيّنه خليفة المهدي، أميراً يتولى عنه جمع الزكاة وتجهيز الجيوش، قبل أن يأمها خلق كثير، وتصبح الآن محلية ود نمر.
• وحلة الكنوز، في جنوب بحر أبيض، أول من سكنها جد واحد كنزي، ثم لحق به أخواه، ثم الأقارب من قبيلة الكنوز، ثم قبائل كثير، شايقية، وفلاتة، دناقلة، ومساليت، حسانية، وجعليين، في تنوع ثقافي وإثني فريد حتى اكتمل عقد مجتمع القرية النضيد.
• ومدينة العلم والنور، الدويم، التي صارت يوماً عاصمة بحر أبيض، أصلها دويم شات، على اسم قرية صغيرة تقع إلى الغرب منها.ح
• هكذا تشكل مجتمع بحر أبيض وتمازج، وجسّد جوهر تنوع مجتمع السودان البهى الفريد.
• غير أنّ بحر أبيض، وكما كان منبعاً لأجمل البدايات في السودان، كان أيضاً مسرحاً لبعضٍ من أقسى الجراح التي عرفها الوطن.
• ففي يناير 1956، وبعد أيام من إعلان الاستقلال، قضى عشرات المزارعين في مشروع جودة اختناقاً أثناء احتجاجهم على أوضاعهم القاسية.
• وفي 1940، جُمعت مديرية النيل الأبيض مع النيل الأزرق تحت شعار “أبو مركوب”، فخسر أهالي بحر أبيض هويتهم الإدارية التي لم تُستعد إلا عام 1974، معبّرين عن حسراتهم بقولهم: “الطيرة أكلت التمساح”.
• ومدرسة تدريب المعلّمين، التي تحوّلت إلى معهد تربوي رائد ونموذج يُدرَّس في أفريقيا والعالم العربي، طُويت صفحته العريقة. ليصبح رمزا لفترة زمنية غنية بالإنجازات والفرح الجماعي.
• ومع ثورة أكتوبر وشعاراتها عن الإصلاح الزراعي والتأميم، انهارت شراكات بحر أبيض المجتمعية الزراعية بانسحاب الشركاء.
• ومن هنا بدأ مسار جديد، إذ ابتعد الاهتمام عن مشاريع إعاشة المواطنين التي بقيت معلّقة، لا أصلحتها حكومة أكتوبر ولا أمّمتها، ليتجه نحو مشاريع السكر الكبرى التي بدت للأهالي أقرب إلى الإقطاعيات منها إلى التنمية الحقيقية.
• أما القرى التي خلدتها الأغاني على من على البابور والقمرة اتنين دور، ومن على البص الفاخر، فقد بهت حضورها وانزوت حين توقفت البواخر النيلية، وتحولت المواصلات إلى طريق الخرطوم – ربك السريع.
• جملة القول، بحر أبيض لم يكن يوماً مجرد إقليم في خريطة السودان، بل مرآته وثيرموميتره، وعموده الفقري في آن.
• فمنه انطلقت أجمل البدايات، وفيه انعكست أقسى الجراح، وعلى ضفافه تمازج الناس وصاغوا وجدانهم المشترك. ومن يقرأ سيرته، يقرأ سيرة السودان نفسه: في فرحه وحسراته، في تنوعه وتعايشه، وفي قدرته الدائمة على النهوض من جديد.
• تجربة بحر أبيض تؤكد أن قوة السودان في تنوعه، وأنه مرآة حاله وميزان تقدمه؛ فالتوصية أن يُستفاد من إرثه وتعدديته لبناء تنمية أكثر عدلاً وتوازناً.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.