الخرطوم: من التمركز إلى التوازن- رؤية متكاملة لإعادة البناء العمراني
بقلم : د.محمد صلاح على الفكى

الخرطوم: من التمركز إلى التوازن- رؤية متكاملة لإعادة البناء العمراني
حين ندرس واقع الخرطوم، نجد أن التحدي الأساسي ليس في غياب الخطط، بل في غياب التنفيذ الفعّال. الاستراتيجية القومية الشاملة (1990 – 2002م) ثم الاستراتيجية ربع القرنية (2007-2031م) وضعت أهدافًا واضحة لتوزيع التنمية بين الولايات، لكن غياب المتابعة جعل الخرطوم تتحول إلى مركز مختنق بكل الأعباء. المطلوب الآن ليس أفكارًا جديدة بقدر ما هو تفعيل عملي للاستراتيجيات القائمة، وربطها بآليات تنفيذ دقيقة تحول الخرطوم إلى مدينة ذكية، متوازنة، وواجهة حقيقية للسودان.
استراتيجية متكاملة لإعادة بناء وتخطيط الخرطوم والنهوض العمراني
الواقع الذي نشاهده اليوم من العشوائية وتريف الخرطوم لم يكن بسبب غياب الرؤية أو التخطيط، بل بسبب عدم تنفيذ الاستراتيجيات الموضوعة للنهوض بالبلاد وغياب آليات المتابعة والتقويم. الحل يقوم على تفعيل الاستراتيجيات الوطنية القائمة وربطها بخطط تنفيذية عملية تلتزم بجدول زمني ومؤشرات أداء واضحة لإعادة التوازن العمراني للخرطوم.
غياب الاستراتيجيات أدى إلى إعادة تشكيل الخريطة السكانية والاقتصادية للبلاد، حيث تركز السكان في الخرطوم على حساب الولايات، وبالتالي غياب تنفيذ الاستراتيجية لم يضر بالخرطوم وحدها إنما أضر بكل السودان. هذا التمركز السكاني أدى إلى ضغط على البنية التحتية والخدمات وخلق أحياء عشوائية ومشكلات عمرانية متراكمة.
الاستراتيجية القومية الشاملة (1990 – 2002م) والاستراتيجية ربع القرنية (2007 – 2031م) وضعت بقدرات علمية وبجودة أكبر، لكنها بقيت حبيسة الأدراج، مقارنة بالخطط التي وضعت إبان الحكم الإنجليزي، رغم محدودية رؤيتها فقد حققت أثرًا واقعيًا.
الاستراتيجية كتخصص من تخصصات الإدارة العامة تعتبر عقدًا بين الدولة والمواطن، وعدم تنفيذها يشكل أحد أشكال الفساد الإداري. الاستراتيجية ليست مرتبطة بجنس أو نظام حكم، فهي تنجح في كل أنظمة الحكم (ملكي، ديمقراطي، شمولي)، وليست وثيقة تُقرأ أو كتاب يُحفظ، بل هي مشهد نعيشه في تفاصيل الحياة اليومية.
مشهد المطارات الدولية، الطرق السريعة، القطارات، النقل النهري، الطاقة النظيفة، وجودة التعليم العام، تعكس مدى تطبيق الاستراتيجية وعدالة توزيع الخدمات. الحالة التي وصلت إليها الخرطوم من العشوائية جاءت نتيجة غياب التنفيذ، وبالتالي غاب المشهد الذي يفترض أن يراه المواطن والزائر.
الحل الجزري أو رؤية إعادة بناء الخرطوم ليست مشاريع إسعافية أو إجراءات موضعية، ولا مجرد بناء هندسي، ولا تقتصر على دراسات جدوى أو مشاريع طموحة شخصية، بل هي تنفيذ الاستراتيجية الوطنية بهدف:
تحقيق التوازن بين ولايات السودان المختلفة.
الحد من التمركز السكاني والخدمي في الخرطوم.
تعزيز التنمية المتوازنة وتوزيع الخدمات والوظائف والإيرادات وفق معايير عادلة.
الهيكل الاستراتيجي لولاية الخرطوم (2008 – 2033م)
أُعد بواسطة شركة MEFIT الإيطالية بمشاركة جهات أخرى، مع محاولة تفعيله في 2020-2021م. خطة MEFIT تناولت فك التمركز وتحويل الخرطوم إلى مدينة سياحية خضراء وفق جداول زمنية، إلا أن التنفيذ الفعلي اقتصر على أعمال شكلية.
أهم المحاور التنفيذية للرؤية:
1. المطار الدولي الجديد:
موقع خارج نطاق الكثافة السكانية.
ربطه بشبكة سكة حديد وطرق سريعة.
تأثيراته: تخفيف الازدحام والضغط البيئي على الخرطوم وتحفيز التنمية بالولايات.
2. التعليم العالي:
الإبقاء على ثلاث جامعات حكومية رئيسية موزعة على مدن الخرطوم الثلاث: جامعة الخرطوم، جامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.
توزيع بقية الجامعات الحكومية والخاصة على الولايات وإنشاء مدن جامعية متكاملة.
3. المصانع:
نقلها إلى مدن صناعية متخصصة بجوار مناطق الإنتاج والمواد الخام، لتقليل التكاليف وزيادة القيمة المضافة محليًا وتحفيز الاستثمار الصناعي بالولايات.
4. الوزارات:
نقل الوزارات الاتحادية من قلب الخرطوم إلى مجمع وزاري متكامل خارج المركز، مع مجمعات سكنية وخدمية للموظفين.
5. تنظيم الإقامات والوجود الأجنبي:
التشدد في منح الإقامات وربطها بنظام هوية رقمي يسهل تتبعها ويحول الملف من عبء إلى مردود منظم يخدم الإنتاج والتنمية.
6. النقل الحضري والربط الإقليمي:
إنشاء شبكة متكاملة للنقل العام (مترو، باصات، قطارات سريعة).
تطوير النقل النهري على النيل كبديل سياحي وبيئي واقتصادي.
تعزيز البنية الرقمية لشبكة النقل (بطاقات دفع إلكترونية، أنظمة مراقبة ذكية).
7. التحول الاقتصادي والسياحي:
إعادة توظيف جزيرة توتي كمشروع سياحي عالمي.
تحويل كرنيش الخرطوم إلى واجهة نيليه سياحية ذكية، وتحويل مباني الوزارات المطلة على النيل إلى فنادق ومتاحف.
8. التنظيم الخدمي والمقاهي:
إعادة الاعتبار للمقاهي كمرافق اجتماعية-اقتصادية-ثقافية.
وضع ضوابط مكانية للأنشطة الخدمية والصيدليات.
9. الحزام الأخضر والزراعة الحضرية:
إنشاء حزام أخضر حول الخرطوم للحد من الزحف العمراني.
دمج الزراعة الحضرية وربط الخرطوم بالمزارع الإنتاجية عبر سلاسل إمداد ذكية.
تحديث التشريعات لحماية الأراضي الزراعية ومنع التجزئة غير المخططة.
المرتكزات الأساسية للرؤية:
1. العدالة المكانية: تفكيك التمركز التاريخي للخدمات والبنية التحتية لصالح تنمية متوازنة.
2. الكفاءة الحضرية: تحويل الخرطوم من مدينة مختنقة إلى نموذج للمدن الرقمية الذكية.
بهذه الرؤية، تصبح الخرطوم مدينة عصرية، خضراء، ذكية، سياحية، وتحافظ على موارد السودان، مع تعزيز التنمية المتوازنة بين الولايات، وإصلاح التعليم العالي، وتوجيه التنمية نحو الولايات.