مقالات

أشجار الذاكرة في السودان بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 3

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

أشجار الذاكرة في السودان

بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 3

• تبدأ رحلتنا في هذه الحلقة من “أشجار الذاكرة” عند هجاليج الإمام المهدي، فعقب معركة الجزيرة أبا، في يوم الجمعة 19 أغسطس 1881م، عبر الإمام المهدي والمجاهدون النيل الأبيض إلى الضفة الغربية، بعد أن قرر الهجرة إلى قدير. وهناك، عند ضفة النهر، أقام المهدي تحت شجرتي هجليج بمنطقة أغسل، مسقط رأس خليفته الثاني علي ود حلو، الذي انضوت تحت رايته جميع قبائل النيل الأبيض. مكث الإمام يومين يتعبد ويصلي بالمجاهدين ويرتل الراتب تحت ظلال الشجرتين.

• ومع انطواء صفحة الجزيرة أبا، نمضي جنوباً نحو غابة شيكان، حيث تبرز تبلدية البروجي شاهدة على واحدة من أشهر المعارك في تاريخ السودان. فهناك، وفي الخامس من نوفمبر 1883م، التقى جيش المهدية بحملة الجنرال الإنجليزي هكس باشا. وحملت هذه التبلدية الضخمة اسم “البروجي”، وهو جندي مصري ضمن قوة استطلاع جيش هكس، أمره قائده باعتلاء الشجرة لاستطلاع الميدان. وما إن بلغ قمتها حتى وقع بصره على جيش المهدية يملأ الأفق، فارتجفت مفاصله وراح ينفخ في بوقه في ذعر لا ينقطع. وخشية أن يثير الفزع في نفوس بقية الجنود، أمر هكس بإطلاق النار عليه، فلقى حتفه بين أغصانها. ويُروى أن جثته ظلت معلقة لسنوات حتى أمر مفتش الأبيض بإنزالها ودفنها تحت هذه الشجرة، التي ظلت شاهدة على نهاية جيشٍ كان يُروَّج له بأنه قادر على دك الأرض بأقدامه ورفع السماء بسناكي بنادقه، قبل أن تتحقق نبوءة الإمام المهدي في صبيحة المعركة حين قال لجنوده عقب صلاة الصببح: من تأخر منكم ليصلح نعله فلن يدرك الترك أحياء.

• ومن أصداء المعركة في شيكان، نتجه شمالاً، نحو ضفاف النيل عند جنوب أم درمان، حيث تقف شجرة الحضرة شامخة بجوار المقابر الفاصلة بين حي أبو سعد وحي الفتيحاب. وسميت بهذا الاسم تخليداً لزيارة الإمام المهدي عام 1884م، حين اتخذ من ظلها استراحة قبل واقعة فتح الخرطوم. وتحت هذه الهجليجة دُفن اثنان من أبناء المهدي، وفي ظلها بايعته قبيلة الجموعية بقيادة المك سليمان ودفع الله الغرقان وأحمد أبوضفيرة، معلنين انضمامهم للثورة المهدية. ومن هنا، انطلق جيش المهدي، الذي بلغ عدده ثلاثين ألف مقاتل، لعبور النيل في شهر يناير، حين كان النهر يتحول إلى مخاضة يسهل اجتيازها، متجهاً نحو قصر غردون. ومع مرور الزمن، انسحب اسم الشجرة على كامل المنطقة، وصارت تُعرف باسمها، حتى أصبحت منذ عام 1930م مقبرة مفتوحة بلا أسوار.

• ومع انطواء حقبة المهدية في الخرطوم، تنتقل بنا الذاكرة إلى يومٍ عصيب من نهاياتها، إلى قرية “أبو ركبة”، حيث ما زالت قائمة شجرة سنط ضخمة تحمل ذاكرة حدث تاريخي مؤثر. فتحت ظلها جلس الخليفة عبد الله التعايشي ليستريح بعد انسحابه من أم درمان في أعقاب معركة كرري، وكأن الشجرة تحفظ بصمتها على مشهد من صفحات التاريخ السوداني.

• ومن ذكريات الانسحاب والرحيل القسري، إلى لحظة مشابهة في غرب البلاد، من وادي الطلبة إلى تخوم مدينة كاس، تبرز شجرة تُعرف بـ”مهاجرية السلطان علي دينار”، حيث يُروى أن السلطان، بعد هزيمته أمام الجيش البريطاني الغازي عام 1916م، اتكأ عليها في استراحة قصيرة قبل مواصلة مسيره. وما زالت الشجرة شاهدة على تلك اللحظة التاريخية

• ومن غرب السودان، نرحل شمالاً إلى ضفاف النيل، حيث نيمات مقاشي وحرازات تنقاسي، ففي مقاشي، ما زالت نيمات الكونتي عبد الرحيم شامخة داخل مجمع المحاكم الأهلية، تحكي في صمت تاريخ المكان وأهله.

• وتحت ظلال حرازات تنقاسي التسعة، أُقيم سوق تنقاسي منذ الثلاثينيات، ولا يزال السوق قائماً في مكانه حتى اليوم، يستظل به الناس كما فعل أسلافهم. ويروي أهل المنطقة أن تحت هذه الحرازات جرت أول عملية شنق لرجل يُدعى “حرجولي”، اتُّهم بقتل آخر، لكن الحقيقة أن القاتل كان غيره، فمات مظلوماً. وصارت النساء يذكرنه في دعائهن على الآخرين، فيقلن مثلاً: “يعلقوك عليقة حرجولي”، أي أن يُشنَق المرء ويُعلَّق كما عُلِّق حرجولي على حرازات تنقاسي.

• وعلى مقربة من حرازات تنقاسي، تمتد الظلال الكثيفة لنيمة دودو بحلة “فتنة” شمال تنقاسي، أكبر نيمة على طريق العربات، وبجوارها بئر دودو، البئر الرئيسي للشرب في المنطقة. وقد ارتبطت الشجرة بحدث بارز في ذاكرة الأهالي، حين نُصِب تحتها سرادق عزاء ضخم عند وفاة زعيم الطريقة الختمية، السيد علي الميرغني، في 21 فبراير 1968، الذي ينتمي معظم سكان المنطقة إلى طائفته. وخلال أيام العزاء التي امتدت لعدة أيام، كانت النساء يأتين من بيوتهن بالرماد في أواني “الطشاتة”، ويضعنه على رؤوسهن أثناء أداء طقوس المناحة. وبعد ذلك الحدث بدأ الذبول يظهر على النيمة، حتى جف عودها تماماً، فاضطر الأهالي لقطعها، وظل موضعها معلماً بارزاً يذكّر بماضيها.

• ومن تنقاسي تحملنا الرحلة إلى أقصى جنوب شرق البلاد، إلى مدينة الروصيرص، حيث الشجرة الحصن، تبلدية ضخمة ما زالت قائمة في مكتب الغابات بمدينة الروصيرص. في عام 1940م، أثناء الحرب العالمية الثانية، اتخذها الشرطي لويس باشا سعيد مقرًا لتدبير عمليات مقاومة ناجحة ضد الطيران الحربي الإيطالي الذي كان يمهّد لتقدم قوات المحور. وكان لويس يعتلي الشجرة عبر سلم (لا يزال محفوظًا بمحلية الروصيرص)، ويطلق منها النيران على الطائرات المعادية. أما التجويف الكبير في جذعها فكان يستخدمه كمخبأ يحتمي به أثناء الغارات، وكـمخزن للذخيرة.

• وعلى بُعد حوالي 80 كيلومتراً من مدينة القضارف، وفي قلب البطانة، تقف شجرة التيتلة شامخة،، تبلدية ضخمة شهدت معركة بين القوات الإنجليزية والإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، تُعقد تحتها الاجتماعات الأهلية بالمنطقة، شاهدةً على تاريخها الحافل.

• هذه الأمثلة، المقتبسة من كتابي “شدرة.. شدرتين.. وغابة”، تكشف لنا أن الأشجار ليست مجرد كائنات حية، بل هي أرشيف مفتوح يروي قصة الإنسان والأرض معاً.

آمالي في حسن الخلاص، وتقديري العميق.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى