المال الذي لا يغرق : الاستثمار في رأس المال البشري كركيزة للتنمية المستدامة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

المال الذي لا يغرق : الاستثمار في رأس المال البشري كركيزة للتنمية المستدامة
“قد تُفقد الثروات المادية في لحظة، لكن المهارة والمعرفة تبقى وتحمل صاحبها إلى بر الأمان.”
في مسار التاريخ البشري، تكررت المشاهد التي تتبدل فيها أحوال الأفراد والمجتمعات بين الغنى والفقر، وبين القوة والضعف، نتيجة أحداث طارئة أو كوارث طبيعية أو تحولات سياسية واقتصادية. وفي كل تلك التحولات، يبرز ثابت واحد: رأس المال البشري – بما يحمله من معرفة ومهارة وخبرة – هو الثروة التي لا يمكن أن تُغرقها الأزمات.
الثروة الحقيقية لا تكمن في الممتلكات المادية وحدها، بل في القدرات الذهنية والمهارية التي يحملها الإنسان أينما ذهب. فالبيت أو المصنع أو المزرعة قد تُترك خلف الحدود، بينما المهارة المهنية والفكر الاستراتيجي يمكن أن يعبران القارات. الطبيب لا يحمل عيادته، لكنه يحمل علمه وخبرته؛ والنجار لا يحمل ورشته، لكنه يحمل مهارته التي تمكنه من العمل في أي بيئة تتوافر فيها أدواته.
الاقتصاد الحديث يقرّ بأن رأس المال البشري هو أحد أهم عناصر الإنتاج وأكثرها تأثيرًا في النمو، بل إن المؤشرات العالمية للتنمية البشرية تضع التعليم والتدريب والصحة في صميم تقييم قوة الدول. من منظور استراتيجي، الاستثمار في الإنسان هو استثمار طويل الأمد يتجاوز حدود الأزمات ويضمن القدرة على النهوض بعد الانكسارات.
اجتماعيًا، المهارات والمعارف تُسهم في تعزيز قدرة الأفراد على التكيف مع البيئات الجديدة، والاندماج في المجتمعات المضيفة، وتقليل البطالة حتى في ظروف النزوح والهجرة. إداريًا، الدول والمؤسسات التي تضع تنمية الموارد البشرية في مقدمة سياساتها تضمن استمرارية الأداء وتنافسية السوق حتى في مواجهة التغيرات. قانونيًا، حماية حقوق الملكية الفكرية وضمان حرية انتقال الكفاءات والمعرفة بين الدول باتت جزءًا من المنظومة الدولية الحديثة. ودبلوماسيًا، تبادل الخبرات البشرية يشكل أداة قوة ناعمة تعزز العلاقات بين الشعوب.
إن التحديات التي تمر بها بعض الدول – من حروب وأزمات اقتصادية ونزوح جماعي – أثبتت أن الأصول المادية قد تُفقد أو تُجمَّد، بينما المهارات تبقى وتفتح أبوابًا جديدة للرزق والإنتاج. ولهذا، فإن بناء “المال الذي لا يغرق” يعني تأسيس منظومة وطنية شاملة للتعليم الموجه، والتدريب العملي، وتنمية الابتكار، وربط مخرجات المعرفة باحتياجات السوق المحلي والعالمي.
إن الاستثمار في العقول والمهارات ضرورة اقتصادية واستراتيجية لبناء مجتمع مرن قادر على مواجهة تقلبات الزمن. فالأزمات قد تعصف بالموانئ والسفن، لكن من يملك “مالًا لا يغرق” سيصل دائمًا إلى شاطئ جديد.
> “الأمم لا تُبنى بما تملك من موارد طبيعية فقط، بل بما تستثمره في عقول أبنائها.”
الاستراتيجية ربع القرنية 2007–2031م وضعت الإنسان في قلب التنمية، وأكدت أن المعرفة، المهارة، والقيم هي أساس النهضة. هذا يتناغم مع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، خاصة الهدف الرابع (التعليم الجيد)، والثامن (العمل اللائق والنمو الاقتصادي)، والتاسع (الصناعة والابتكار)، والسابع عشر (عقد الشراكات).
تجارب دولية كرواندا وسنغافورة أثبتت أن الاستثمار الاستراتيجي في رأس المال البشري، مقرونًا بتقنيات العصر ، يختصر عقودًا من التخلف إلى سنوات من التقدم. وفي المقابل، مراجعاتنا الوطنية تكشف أن غياب الربط الفعّال بين الرؤية والسياسات التنفيذية أضعف أثر الخطط.