ياصاحبي، لاتكره حتى الذي ظلمك

ياصاحبي، لاتكره حتى الذي ظلمك

اليكم هذه الآية العظيمة، لعمري انها آية تحوي الكثيف مما يشكل الوجدان ايجابا، ويرقى به في مدارج السالكين إلى الله حبا وتسليما واخباتا!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{… وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقرة 216

في البدء علينا ان نعلم بأن هذه الآية قد وردت في شان الحرب والقتال!، والآية كاملة باستفتاحها كما يلي:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 216 سورة البقرة

والقتال بلا جدال من أسوأ أحداث الحياة إن لم يكن أسوأها، وقد وصفه الله تعالى في هذه الآية بأنه (كُرْه)، لكنه مع هذا الكره قال ربنا لانه قد يكون فيه من الخير الكثير!، فالأمور لاتجري دوما على مقاييسنا وعلمنا كبشر، بل هي بمقاييس وعلم رب الأرباب الله جل في علاه…

من الأمثلة قصة الذي أتي إلى المطار ليسافر وقد تأخر قليلا فوجد الموظف أدخل مكانه مسافرا آخر من لائحة الانتظار، وقد يكون ذلك البديل قريبا أو صديقا للموظف، فيحدث الشجار ونغضب أشد الغضب، وإذا بالطائرة تسقط بعد اقلاعها بقليل فلاينجو منها مسافر!، هنا، فقد جعل الله تعالى هذا الموظف سببا في نجاة إنسان، وكذلك في موت آخر!

وكم من قصص مثل هذه تحدث لنا او نسمع بها يا أحباب، إلا يستحق الامر ان نراه من منحى آخر؟!

يقول ابن الجوزية رحمه الله متحدثا عن هذه الآية الكريمة:

(لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وانفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وان هوِيته نفسه ومالت إليه وإن عواقبه كلها آلام و احزان وشرور ومصائب وخاصة العقل، تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير و اجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل).

انتهى

لقد وقعت على لطيفة لا أعرف صاحبها تقول:

(يُخفي الله عن المؤمن حسن العواقب اختبارًا ليقينه،

و لو أبصر ما خُفي من لطف ربه لأستلذّ البلاء كما يستلذ العافية).

يا الله…

بالله عليكم ألا تشرح هذه اللطيفة الصدر؟!

لعمري ان بعض اللطائف أزاهر وورود تتزين لنا لنقطفها…

اقول:

بحمد الله اعتدت منذ صغري أن احتسب لله كل ما يحدث لي من أقدار (قد) أجد في ظاهرها السوء، والحق أقول بأنني دوما أجد العاقبة خيرا بفضل الله…

في إحدى القصص كان عند ملك وزير يتمتّع بحكمة كبيرة، ويثق أنّ كل ما يقدّره الله للإنسان هو خير، وفي يوم من الأيام خرج الملك برفقة الوزير للصيد، وكلّما فشل الملك في إصابة طريدة قال له الوزير (لعلّه خير)!، وأثناء مسيرهما وقع الملك في إحدى الحفر العميقة، فقال له الوزير (لعلّه خير)!، ثمّ نزف من يد الملك دم كثير، فذهبا إلى الطبيب فأمر بقطع الإصبع حتّى لا يتضرر باقي الجسم بسببه، فغضب الملك غضباً شديداً ورفض الخضوع لأمر الطبيب، إلّا أنّ إصبعه لم يتوقف عن النزيف مما أجبره على قطع إصبعه، فقال له الوزير (لعلّه خير)!، فسأل الملك الوزير (وما الخير في ذلك، أتتمنى أن ينقطع إصبعي؟!) وغضب عليه وأمر بسجنه، فقال الوزير (لعلّه خير)!، وقضى الوزير فترة طويلة داخل الحبس.

في يوم خرج الملك للصيد مصطحباً معه حرّاسه، فوقع في يد جماعة ممن يعبدون الأصنام فأخذوه ليدفعوا به قرباناً لأصنامهم التي يعبدونها، وعندما عرضوا الملك على قائدهم وجد إصبعه مقطوعاً فأمر بتركه وإعادته من حيث أتى، لأنّ القربان يجب أن يكون سليماً بغير علّة، فعاد الملك إلى القصر مبتهجاً لنجاته من الموت بأعجوبة، وطلب من الحرّاس فك اسر الوزير واحضاره، وروى له ما حصل معه، ثم واعتذر عمّا بدر منه، ولكن سأله عن سبب قوله (لعلّه خير) عندما أمر الحرّاس بأن يسجنوه، فأخبره الوزير بأنّه لو لم يحبسه لكان معه في الصيد كما يفعل عادة، وحينها سيكون قرباناً للأصنام بدلاً منه، وأخبره الوزير أنّ الله عندما يأخذ من الإنسان شيئاً فهو امتحان من الله ولخير يجهله العبد، ففرح الملك كثيراً وقال: (لعلّه خير).

ولنقرأ قصة يوسف عليه السلام مع إخوته كل حين، اذ فيها من العبر الكثير، لكن أرى بأن نقرأها بصورة مغايرة، فأيما قارئ لها يكون ناقما على اخوة يوسف للذي حدث منهم تجاهه من ظلم وكيد، ولا أنكر بأنني كنت ممن انقم عليهم في البدء، لكن تكراري لقراءة الآيات الكريمات الواردة في شأنهم، وربطها بآية سورة البقرة أعلاه، وكذلك آيات أُخَر؛ أبان لي لي ذلك الكثير الذي لم اكن أتبينه، فجعلني ذلك بان أركن إلى رؤية مغايرة لفهم هذه القصة الموحية،

لقد ذكر القرطبي بأن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، لا أولا ولا آخرًا؛ لأن الأنبياء لا يدبِّرون قتل مسلم، بل كانوا مسلمين فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبّأهم الله، وهذا أشبه.

إنتهى قول القرطبي.

أقول:

لا جدال بأن إخوة يوسف قد كادوا له، والكيد معهود في بني آدم منذ أزلهم، ولاغرو أن الكيد إن تاب عنه فاعله وسعى لكسب رضى من كاده فإنه أقرب لعفو الله ورضوانه، والكيد لم ينأ عنه -حتى- بعض خيار الأمة من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم اجمعين، ومن ذلك ما فعله الصحابي الجليل حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما حدثته نفسه بالكيد فأرسل رسالة مع امرأة إلى مشركي مكة يحدثهم فيها عن عزم النبي صلى الله عليه وسلم للتحرك بجيش المسلمين لفتح مكة، بغية أن يكون ذلك مدعاة لأن لاينال أهل مكة ممن بقي فيها من أهله وماله بعد هجرته إلى المدينة، وكذلك حدث الكيد من صحابة اجلاء خلال موقعة الجمل ومنهم الصحابي الجليل طلحة رضي الله عنه، دخل عمران بن طلحة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: {…ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}، فقال رجلان جالسان على ناحية البساط: الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا؟ فقال علي رضي الله عنه: قوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هو إن لم أكن أنا وطلحة…

لنعود إلى كيد إخوة يوسف لنحاول تبين كنهه ودوافعه:

لقد كان كيدهم ليوسف وأخيه بسبب (وَهَمٍ) أصابهم، بأن يوسف وأخيه أثيران لدى أبيهم يعقوب عليه وعليهما السلام:

{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.

فما كان منهم إلا أن خططوا للتخلص من يوسف عليه السلام وهو اليافع حينها (قيل كان عمره 8 سنوات، وقيل 14 عاما).

وقد اختلفوا في كيفية التخلص من يوسف فتعددت الآراء في ذلك:

1ـ قتل يوسف.

2 ـ طرحه ارضاً.

3 ـ إلقاؤه في غيابة الجب.

قال الحق جل في علاه على لسانهم:

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.

وقد رد أحدهم:

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.

وهنا يتبين جليا أن القتل منهم لم يكن بنية العمد، إنما كان المقصد إبعاد يوسف ليخلو لهم وجه أبيهم، والتركيب اللغوي في الآية يُعبّرُ جلياً عن ذلك من خلال الجُمَل القصيرة المتلاحقة:

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.

فسوء الطوية لم يكن أصيلا في قلوبهم ووجدانهم، فكم كانت نفوسهم (لوامة) ومعترفة بالذنب، يبدو ذلك جليا في قول كبيرهم عندما يئسوا من تخليص أخيهم (بنيامين)، وقد التزموا لأبيهم من قبل برده إليه وعاهدوه على ذلك فامتنع عليهم.

وهو الذي أشار على بقية إخوته من قبل بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله فقال لهم:

{ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من اللّه} لنردنه إليه؟ ثم أخد على نفسه عهدا وقال {فلن أبرح الأرض} أي لن أفارق هذه البلدة {حتى يأذن لي أبي} في الرجوع إليه راضياً عني {أو يحكم اللّه لي} بأن يمكنني من استرداد أخي {وهو خير الحاكمين}.

وهناك دليل آخر أجده يستحق وقفة، ألا وهو الوصف الذي رآهم عليه يوسف عليه السلام في ثنايا رؤياه القَبْلِيّة:

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.

لماذا ياترى رآهم (كواكب) بمعية أبويه القمرين إن لم يكن فيهم خير؟!

فمن يُرَى أو يوصف بالكوكب، فقد حُمِدَ ولم ينقَص او يُبخس، أليس ذلك شاهدا لهم وليس عليهم؟!

ولنسأل أنفسنا ماذا كان نتيجة كيد إخوة يوسف له؟

لقد أصبح وزيرا للمالية ونائباً عن الملك!

ثم أصبح السبب والمعين بعد الله في إخراج أهله جميعا من ضيق الفقر وإِحَنِ المسغبة إلى فضاءات النعمة والهناء!

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

هنا ينبغي لنا أن نقف وقفة:

لنعلم يقينا بأن كل صغيرة وكبيرة تعتري حراك حياتنا مقدرة، وكل كيد تصيبنا سهامه يكون مآله خيرٌ لنا ومحمدة (طالما لم نكن قد ظلمنا أحدا أو اقترفنا جرما، أو كنا سببا لأذى)، والمصاب والكربة مهما كان ظاهرها كالح فالله قال في محكم تنزيله (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم)!

والله تعالى حينما أراد ليوسف ان يخرج من الجب، أرسل إليه من يخرجه وجعلهم فيه من الزاهدين!

وكذلك عندما دخل السجن أرسل الله رؤيا منامية تسللت -بليل- إلى رأس ووجدان الملك لتكون سببا في خروجه من السجن، ليس مطلق السراح فقط، إنما وزيرا للملك ومسؤلا عن خزائن الأرض!

إنه الله الأرأف بنا من الام بجنينها، فلماذا اليأس من تفريج كُرَبِهِ وحسن الجزاء منه بالخير؟!

لقد قُدِرَ لي أن تكتنفني مِحْنَة، وكم كانت سورة يوسف ومافتئت مواسية لي، فهذا القرآن يا أحباب يكون ربيعا للقلوب عندما يقرأه المرء منا بإقبال ويسقط آياته على نفسه وواقعه، فلنتعلم من القرآن الكريم -ومن سورة يوسف بالأخص- حسن اليقين في لطف ربنا ورحماته، ولنأطر أنفسنا بأن لانكره أحدا وان ظلمنا او تسبب في ذلك، فإننا لانعلم الذي كتبه الله لنا في ثنايا ذلك ومآلاته، وعلينا أن لاننقم من إخوة يوسف وهم (الكواكب) كما رآهم نبي الله يوسف، وقياسا على ذلك علينا أن لاندعو على من كادنا، فلعل الله أتى به لمآل حميد يريده الله -الرحمن الرحيم- لنا.

آمنت بالله.

adilassoom@gmail.com