ريدكم لي شديد يايابا
كم كان -ولم يزل- لأشعار راحلنا الجميل عبدالله محمد خير من إيجاب في حراك حياة جيلنا!…
وكم شكّلت من وجداننا أشعاره ونحن -حينها- ندلف الى سوح الرّجولة والفحولة والدُنا من حولنا مزدانة بجمال الماضي وأزاهير المشاعر الإنسانية التي تعبق بها فضاءات شمالنا الحبيب!
تلك الديار الريانة بالطيبة والبهاء فإذا بالنيل ينحني لها إجلالا ، وإذا باللّهجة في ألسنة أهلها (تميل) نتاج ثقل المحبّة المنداحة بين الناس (فطن) البيوت وفي (بلد بي تحت) وفي أصوات بوري اللواري والبصات بين يدي شروعهنّ للتحرك إلى (الخرتوم) دغشا بدري ومن قبل أن يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الفحر.
يومها جلس عبدالله محمد خير على (عنقريبه) يرهف السمع إلى صوت أحد البصات وقد اطلق سائقه صوت البوري لتهيأ الركّاب للسفر الذي كان يستغرق الأيام وعلى طريق لم ينعم بالأسفلت بعد.
جلس عبدالله وهو اليافع المستشرف لعوالم الشباب ولم يحظ بقدر من التعليم يجعله أهلا للسفر إلى حيث سبقته محبوبته ميمّمة صوب العاصمة وما كان أهله من ذوي النّعمة حتى يصبح السفر لديهم سهلا غير ممتنع.
وبقي على حاله ذاك إلى أن سمع صوت أبيه (متنحنحا) وهو يتهيأ لصلاة الفجر فعلم بأنه لامناص آتيه ليوقظه للصلاة ، والآباء في تلك الديار برغم كل شواهد الحنّية التي تميزهم إلاّ إنهم قد جبلوا على قساوة لايجد المرء لها تفسيرا إلاّ بإستصحاب القول بأن أهلنا أولئك ينتسبون الى قبائل (محاربة) ذات شكيمة وبأس قد إنسرب الى وجدانهم فوازن مابين شواهد المحنّة العديدة فيهم من شاعريّة وإمالة اكتنفت لهجتهم ولكن تقابل ذلك (قساوة) يلحظها المرء في أسلوب تربيتهم لأبنائهم فلا سبيل البتّة إلى حياة دعة للناشئة إنما الولد إن نجح فللعسكرية ورصيفاتها من مهن البندر وإن رسب فإلى الطورية ورصيفاتها من مهن القرية ، ولعلّها مقابلة بين قطبي رحى تجعل الناشئ في تلك الديار ملازما لمسار لايخطئه ، كما القمر الذي تحكمه جاذبية الأرض فلا انفكاك الى الفضاء ثم قوة دفع مقابلة نتاج الدوران
Force centrifuge
تنأى به عن السقوط إلى حضن الأرض فيظل يدور في فلكها إلى أن يشاء الله.
عبدالله كان كذلك فلا أمل البتّة الى حراك إلا أن يأذن له الوالد ودون ذلك خرط القتاد ، فكيف له أن يقنع أبيه بحبّه الذي تشرّبت به روحه بعد ان (تستّف) فؤاده بصورتها وهي تروح وتجئ أمام ناظريه في شوارع الجابرية وبيوت الحسيناب!
تقلّب عبدالله على فراشه وهو يفكّر لماذا لا أواجه أبي وأطلب منه بأن يأذن لي بالزواج منها أو -أضعف الإيمان- أن يسمح له بالسّفر الى العاصمة لكي يراها و(يبل شوقو).
وإذا بأبيه يأتيه ليوقظه للصلاة ومشاعر الأبوّة تجمّل كلماته فيقول:
قوم آ عبدالله ياولدي النّبّاه نبّه قوم أجهز للصلاة النمشى سوا علي الخلوة.
يااااااه
كم يعلم يقينا مقدار (الريدة) التي يكنها له والده ، لكنه كذلك يعلم يقينا بأنه إن تحدّث إليه وكاشفه بطلبه لانقلب الحال نتاج القساوة الجينية في وجدان أبيه برغم الريدة المركوزة فيه إذ لامحالة سيسمعه درسا لن ينساه طوال حياته إذ أن التفوّه بالذي يطلبه عبدالله زواجا كان او حتى السفر لرؤياها يعدّ من رابع المستحيلات من بعد الغول والعنقاء والخل الوفي فأقل مايمكن أن يسمعه إياه والده القول:
يا ولد إتّ آ بتخجل على طولك دا بنيّي تسويلك السواة دي؟!
فما كان منه إلا أن جعل يخاطب خيال أبيه الذي حمل (إبريقه) وذهب ليتهيأ للصلاة فقال:
ريدكم لي شديد يا يابا
وريدي أنا للبريدو شديد
إلا أنا ما معاكم ديمة
لكن عن حبيبي بعيد
خلوني اللّسافر أبويا
لو كان في إجازة العيد
أمشي أزور حبيبي الغالي
داير أوفّي حقّ الريد
عشان يا يابا من يوم روّح
ما جاب لي منو بريد
وما قال ليّ وين يا زولي
كيف عامل براك وحيد
ليشن يابا ما بترضوني
ياني وليدكم الويحيد
خايف بكره ما تلقوني
إلا تتلّتولي القيد
شان شوق الحبيب مالكني
والنار في ضلوعي تقيد
داير يابا أمشي وأزورو
يمكن شوفتو لي تفيد
يابا عليك عطفك ليّ
ما تخلوني أبكي شديد
ويابا إن كتّ تدري البيّ
ماب تابى لي أبقى سعيد
يابا إن كتّ قادر أخلي
كت خليتو بدري أكيد
زولاً حبّو عاش في قلبي
كيفن عن طريقو أحيد
كان يا يابا ما جرّبت
تهواها الحسان الغيد
وكان يا يابا ما أشجاك
صوت البلبل الغريد
وكان يا يابا ما ساهرت
وعينيك ضاقن التسهيد
ما بتهتم بي أعذاري
مهما أقول ومهما أعيد
دحين يا يابا ماك مشتاق
وحيدك يبقى عندو وليد
يحوم في البيت ويلعب فيهو
يمرح في براءة سعيد
يقول لي يمة يا حبّوبة
يا حبوبه عندي نشيد
يسعدني ويسر بال أمو
ليك يا يابا يبقي حفيد
هاك يا يابا من أشعاري
أبيات أنهكا الترديد
كم تاه في دروب الريده
قلبي وكم نظم لو قصيد.
فلا يلبث إلاّ أن يتلقفها عريض منكبي الإمتاع وبعيد قرط الإبداع صديق أحمد فيحيلها إلى إكليل من أزاهير المشاعر البديعة فلايلبث جيلنا إلا ويتلقفها فيزيّن بها القلوب قبل الجيد والأعناق!.
الرحمة والغفران لك ياعبدالله محمد خير فقد شكّلت وجداننا بالكثير من صور البهاء ورسمت في الأخيلة الكثيف من صور المحبّة والجمال والعشق الحلال.
adilassoom@gmail.com