
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستراتيجية كعقدٍ مقدّس بين الدولة والمجتمع:
دروس من العالم المتقدم وفجوة المشهد الغالب عن المواطن في دول العالم الثالث
في عالمنا المعاصر تعد الاستراتيجية عقدٍ مقدّس يربط الدولة بمواطنيها، تُحاسب به، وتُبنى عليه شرعية القرار والتنفيذ.
لم تعد الاستراتيجية في عالم اليوم وثيقة نظرية تُكتب لإشباع متطلبات إدارية أو لإرضاء جهات مانحة، ولا خطة تُعلَّق على جدران المؤسسات بوصفها إنجازًا شكليًا، بل أصبحت الإطار الحاكم لعلاقة الدولة بالمجتمع، والمرجع الأعلى الذي تُقاس به جدية الحكومات، وصدق وعودها، وكفاءة مؤسساتها.
فحيثما التزمت الدول باستراتيجياتها، تحوّلت الرؤى إلى واقع ملموس، وحيثما جرى تجاوزها أو تعطيلها، تحوّلت الخطط إلى أوراق بلا روح، والدولة إلى كيان مرتبك فاقد للبوصلة، مهما امتلك من موارد أو شعارات.
الاستراتيجية في الدول المتقدمة: التزام لا يُتجاوز
في الدول المتقدمة، تُعد الاستراتيجية التزامًا وطنيًا ملزمًا، لا خيارًا سياسيًا قابلًا للتأجيل أو المساومة. فهي الإطار الذي يوجّه السياسات العامة، ويضبط القرار التنفيذي، ويمنع الارتجال، ويحوّل الطموحات إلى برامج قابلة للقياس والمساءلة.
لا يُنظر إلى الاستراتيجية باعتبارها رأيًا أو مقترحًا، بل باعتبارها عقدًا أخلاقيًا ومؤسسيًا بين الدولة والمواطن، يُلزم صانع القرار كما يُلزم الجهاز التنفيذي. وتُراجع جميع السياسات والبرامج على ضوئه بسؤال بسيط وحاسم:
هل تتسق مع الاستراتيجية أم لا؟
فإن لم تتسق، لا تُجاز.
وتستند هذه الاستراتيجيات في صياغتها إلى مرجعيات عالمية شبه موحّدة، في مقدمتها الأهداف الأممية السبعة عشر للتنمية المستدامة (SDGs)، التي تمثل الإطار المعتمد عالميًا لبناء الاستراتيجيات الوطنية. فالمنهج واحد، والأدوات معروفة، والفارق الحقيقي لا يكمن في الصياغة، بل في درجة الالتزام بالتنفيذ.
حكومات تلتزم… وحكومات تُزيّف الالتزام
يمكن تقسيم حكومات العالم اليوم إلى فئتين واضحتين:
الفئة الأولى: حكومات تلتزم وتُحاسَب
وهي حكومات تنظر إلى الاستراتيجية باعتبارها عقدًا نافذًا، ينعكس التزامها به في مشهد يومي محسوس:
حوكمة رشيدة وشفافية عالية
مدن ذكية وخدمات رقمية فعّالة
تعليم عام مجاني وجيد
علاج موطَّن ومظلة تأمين صحي شاملة
بنية تحتية متقدمة (مطارات، طرق، قطارات)
طاقة نظيفة وتنمية متوازنة ومستدامة
في هذه الدول، لا يستطيع أي مسؤول – مهما علا موقعه – اتخاذ قرار خارج إطار الاستراتيجية، حتى في أبسط القطاعات.
الفئة الثانية: حكومات تُفرغ الاستراتيجية من مضمونها
وهي حكومات تصوغ الاستراتيجيات، وتُجيزها، وتُدرج لها ميزانيات، لكنها تفعل ذلك بوصفه إجراءً شكليًا يُستخدم للتقارير والمانحين، لا كأداة تغيير حقيقي.
هنا يغيب أثر الاستراتيجية عن حياة المواطن، فلا يرى سوى:
إعادة تدوير المنتجات القديمة
تكرار التجارب الفاشلة
الإصرار على مسارات ثبت فشلها
تغليب المصالح الضيقة على المصلحة العامة
وفي عالم اليوم، يُعد هذا السلوك شكلًا من أشكال الفساد الإداري المقنَّع، لأنه يستهلك الزمن والمال والطاقة دون مردود تنموي.
غياب الاستراتيجية… حين يتحول الفشل إلى إنكار
الأخطر من الفشل هو الإنكار المنهجي للفشل. ففي كثير من دول العالم الثالث، لا يُنظر إلى عدم تنفيذ الاستراتيجية باعتباره خللًا مؤسسيًا يستوجب المحاسبة، بل يُعاد إنتاجه عبر تبريرات سياسية وإعلامية، بينما الواقع يزداد تدهورًا، والفرص تضيع، والمواطن يُقصى عن أي أثر إيجابي.
وقد ارتبط هذا الغياب غالبًا بتمركز مفرط في القرار والخدمات والموارد، أفضى إلى اختلالات عميقة:
هجرة داخلية كثيفة، تضخم حضري غير طبيعي، ضغط هائل على البنى التحتية، وتآكل القدرة على تقديم خدمات عادلة ومتوازنة. وكلها نتائج مباشرة لغياب الالتزام الاستراتيجي، لا لغياب الموارد.
الاستراتيجية كعقدٍ ملزم: من القيمة الأخلاقية إلى الإلزام المؤسسي
إذا كانت الاستراتيجية عقدًا بين الدولة والمجتمع، فإن قدسيتها لا تنبع من اللغة أو النوايا، بل من تحويلها إلى التزام مؤسسي قابل للمساءلة. فالعقد لا يكون عقدًا إلا إذا توافرت له ثلاثة عناصر:
أطراف واضحة، التزامات محددة، وآليات جزاء عند الإخلال.
في هذا الإطار:
تكون الدولة طرفًا ملتزمًا بالتنفيذ.
ويكون المواطن شريكًا في الرقابة والتقييم، لا مجرد متلقٍ للنتائج.
وتمثل المؤسسات التشريعية والرقابية الضامن التنفيذي لهذا العقد.
وعند غياب أي من هذه الأركان، تتحول الاستراتيجية من عقد ملزم إلى إعلان نوايا مؤجّل.
كما أن التمييز بين فشل الاستراتيجية وفشل التنفيذ مسألة جوهرية؛ فليست كل استراتيجية صائبة بالضرورة، لكن الأخطر هو تعطيل استراتيجية صائبة دون محاسبة، أو تنفيذ استراتيجية فاشلة دون مراجعة. في الدول الرشيدة، تُراجع الاستراتيجيات دوريًا، لكن لا يُسمح بتجاوزها أو تعطيلها خارج الأطر المؤسسية.
ولا يكتمل هذا العقد دون مواطن فاعل، يُمكَّن من الوصول إلى المعلومات، ومتابعة مؤشرات الأداء، ومساءلة ممثليه، لأن غياب المواطن عن دائرة التنفيذ هو المدخل الأكبر لتزييف الالتزام وتحويل الاستراتيجية إلى وثيقة نخب مغلقة.
حين لا تُنفَّذ الاستراتيجية: إطالة عمر الخطة وتحميل الأجيال الثمن
من أخطر المفاهيم المضلِّلة في دول العالم الثالث الاعتقاد بأن عدم تنفيذ الاستراتيجية يُبقيها صالحة للمستقبل، أو يمنح الدولة فرصة لإعادة المحاولة لاحقًا.
في الواقع، عدم التنفيذ لا يُنقذ الاستراتيجية، بل يُطيل عمرها قسرًا خارج زمنها الطبيعي، ويحوّلها من أداة نهوض إلى عبء تاريخي.
فالاستراتيجية وُضعت لزمن محدد وسياق معلوم. وعندما لا تُنفَّذ في وقتها:
تتقادم افتراضاتها
تفقد أدواتها فعاليتها
تتغير البيئة التي صُمّمت من أجلها
فتتحول من خريطة طريق إلى وثيقة مُرحَّلة من حكومة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل، دون مساءلة.
والأخطر أن كلفة عدم التنفيذ لا تختفي، بل تنتقل. فحين تعجز حكومة عن تنفيذ استراتيجيتها، فإنها:
تُحمِّل الأجيال القادمة أعباءً مضاعفة
تُراكم فجوات التنمية بدل معالجتها
ترفع كلفة الإصلاح المستقبلي أضعافًا
وهو ما يجعل عدم التنفيذ شكلًا من أشكال غياب العدالة بين الأجيال.
التوصيات:
أولًا: تشريعية
1. اعتبار الاستراتيجية مرجعية ملزمة لا يجوز تجاوزها تشريعيًا أو تنفيذيًا.
2. تجريم تعطيل أو تجاوز الاستراتيجية بوصفه شكلًا من أشكال الفساد الإداري.
ثانيًا: تنفيذية
3. ربط إجازة أي سياسة أو مشروع بمدى اتساقه مع الاستراتيجية الوطنية.
4. ربط الموازنات العامة بخطط التنفيذ الاستراتيجي.
ثالثًا: رقابية
5. إنشاء آليات مستقلة لمتابعة التنفيذ والتقييم والمساءلة الدورية.
6. نشر تقارير أداء دورية للرأي العام.
رابعًا: مجتمعية
7. إشراك المواطن في متابعة التنفيذ عبر الشفافية وإتاحة المعلومات.
8. وقف إعادة إنتاج النماذج الفاشلة خارج الرؤية الاستراتيجية.
الاستراتيجية ليست نصًا جميلًا ولا وثيقة للاستهلاك السياسي، بل عقد شرف بين الدولة والمجتمع.
وحين تُحترم الاستراتيجية، تُحترم الدولة، ويُصان المواطن، وتتحول التنمية من شعار إلى واقع.
أما حين تُفرغ من مضمونها، فإن الفساد يتمأسس، والموارد تُهدر، والمستقبل يُؤجَّل إلى أجل غير معلوم.
وفي عالم لا يمنح فرصًا إضافية لتكرار الفشل، فإن الالتزام بالاستراتيجية لم يعد خيارًا…
بل شرطًا للبقاء والنهوض.







