مقالات

ومضات الجمعة – الحياة بين التخيير والتسيير

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

ومضات الجمعة

الحياة بين التخيير والتسيير

• تخيّل – لا سمح الله –وجدت نفسك فجأة وجهاً لوجه أمام ثعبان كوبرا، بفحيحها المرعب ومنظرها المخيف.

• في لحظة الخوف هذه، تتحول اهتزازات الصوت وفوتونات الضوء التي تصل إلى أذنيك وعينيك، عبر جهازك العصبي، إلى رسائل كيميائية معقدة.

• فيندفع هرمون الأدرينالين فجأة في شرايينك، معلناً حالة الطوارئ القصوى في جسدك.

• لكن المدهش أن هذه الذبذبات نفسها، إذا استقبلها جسد ثعبان آخر، تتحول إلى إشارات كيميائية مختلفة تماماً.

• هذا الاختلاف في الجينات يبيّن أن الكائنات الحية لا تستسلم للظروف الخارجية، بل تمتلك قدرة داخلية على فهمها والتفاعل معها بطريقة مدروسة.

• لكن في المقابل هناك نظرية أخرى، تذهب إلى القول بأن الكائن الحي مجرد تابع للبيئة: إما أن يتكيف معها فيستمر، أو يعجز عن ذلك فيفشل ويموت ويندثر.

• غير أن نتائج دراستي لشجرة الحراز التي أُجريتها لنيل درجة الدكتوراه، تشير إلى أن الصورة أعقد من هذا التبسيط.

• فالحراز، كما هو معروف، يطرح أوراقه في الخريف، بينما تحتفظ الأشجار النفضية الأخرى التي تتعايش معه في البيئة نفسها بأوراقها، وفي فترات الجفاف يحدث العكس تماماً.

• هذا السلوك غير المألوف تتحكم فيه برمجة وراثية دقيقة لإنزيم يُعرف بـ Superoxide Dismutase، وهو إنزيم يلعب دوراً محورياً في حماية الخلايا النباتية من أضرار الإجهاد المائي.

• واللافت أن الحراز في البيئات ذات موسمين للأمطار ويطرح أوراقه مرتين سنوياً، يُظهر نمطاً وراثياً مختلفاً عن الحراز الذي يعيش في بيئات ذات موسم مطري واحد، ويطرح أوراقه مرة واحدة في العام.

• وهو ما يدلل على قدرة الكائن الحي على اتخاذ “قرارات داخلية” دقيقة، استجابة لاختلاف السياق البيئي، لا خضوعاً أعمى له.

• هذه الحقيقة لا تقتصر على الحراز وحده؛ بل أن جميع الكائنات الحية تعيش في منطقة وسطى بين إرادة داخلية، وابتلاءات خارجية تفرضها عليها البيئة.

• هكذا هو الكائن الحي، مخيّر ببرمجته، ومسير بظروفه؛ جيناته تمنحه الاختيار، لكن البيئة تضعه موضع الاختبار.

• فالحياة إذن ليست خضوعاً كاملاً للظروف، ولا إرادة مطلقة بلا قيود، بل هي مزيج دقيق ومتوازن بين التخيير والتسيير.

• هكذا خلق الله الحياة: اختيارٌ بقدر، وسيرٌ بحكمة، وابتلاءٌ بعدل.

• ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، صدق الله العظيم.

جمعة مباركة

 

د. نوال خضر

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى