حين تبتُر الأيادي وتضيع الفرص: استراتيجية بلا تنفيذ = ذهب مفقود
بقلم : د. محمد صلاح على الفكى

حين تبتُر الأيادي وتضيع الفرص: استراتيجية بلا تنفيذ = ذهب مفقود
في جوهر استراتيجية التخطيط، تكمن القدرة على التقاط الفرص وتحويلها إلى إنجازات ملموسة. لكن في واقع كثير من الدول النامية يكشف لنا أن الفرص كثيرًا ما تتكرر، وتُهدى أحيانًا على طبق من ذهب، دون أن تُستثمر. لماذا؟ لأن “الذهب مفقود بسبب الأيادي المبتورة، لأنها لا تستطيع الحركة”.
وهذه ليست استعارة لغوية فقط، بل تحليل مركب لحالة تلك الدول التي تعيش حالة من التخلف رغم توفر الموارد الطبيعية والبشرية وجودة التخطيط، ولكن رغم ذلك ظلت الاستراتيجية على الأرفف والمشهد غائب عن المواطن. الفارق بينها وبين الدول المتقدمة هو التنفيذ، ولذلك ظل مشهد تنفيذ الاستراتيجية في الدول النامية غائبًا، بينما أصبح مشاهدًا في الحياة اليومية وواقعًا ملموسًا نشاهده في المطارات الدولية والطرق السريعة والعدالة الاجتماعية في الخدمات والالتزام الحكومي بمجانية التعليم العام والطاقة النظيفة والقطارات السريعة والحوكمة والتنمية المتوازنة والمستدامة… إلخ. الاستراتيجية هي عقد بين المواطن والدولة.
· استراتيجيًا: غياب أدوات التنفيذ يعطل أي رؤية مهما كانت عظيمة. “الاستراتيجية ع الورق لا تفيد”.
· اقتصاديًا: تضيع الموارد في ظل ضعف القدرة المؤسسية على امتصاصها وتوجيهها.
· اجتماعيًا: تُغتال المبادرات بفعل الاستقطاب والتصنيف، ويُخوَّن من ينطق باسم الناس.
· إداريًا: تنشل المؤسسات حين تُدار بالعواطف، لا بالكفاءة والمعرفة والحوكمة. “البدلائل ليست حلًا جذريًا وإنما تلميع إداري مؤقت”.
إن الاستراتيجية لا تساوي النجاح إلا حين تتكامل: الرؤية + اليد القادرة + الإرادة + البيئة المُمكّنة. وإلا ستظل مشاريع الإصلاح نصوصًا مؤجلة، وفرصًا فائتة، وشعوبًا منتظرة
فالذهب لا يلمع في الظلام، والرؤية لا تتحقق إذا كانت الأيادي مبتورة.
التحليل:
أبعاد “اليد المبتورة” في واقع الدول النامية
البعد النفسي والاجتماعي: الحاجة إلى الملاذ الآمن
لا يمكن لأيادي مبتورة أن تتحرك وهي في قلق دائم. يحتاج الإنسان أولاً إلى “ملاذ آمن” يشعر فيه بالأمان والاستقرار، “بالإضافة للدخل لتأمين أبسط مقومات الحياة”. هذا الاستقرار هو الأساس الذي تُبنى عليه أي إرادة للإنجاز. “فاقد الشيء لا يعطيه”، فكيف نطالب مواطنًا بقلق الوجود أن يبني مستقبلًا؟ الاستراتيجية الفعالة تبدأ بترميم الإنسان قبل المؤسسة.
البعد المؤسسي والثقافي: الفجوة بين التخطيط والواقع
“الناس مفروض يضعوا خطة لكيفية تنفيذ الاستراتيجيات على أرض الواقع”. كثير من الخطط تُصمم في أبراج عاجية بعيدة عن تعقيدات الواقع اليومي، مما يجعلها حبرًا على ورق. التخطيط الحقيقي يجب أن يكون تشاركيًا، ينزل إلى الشارع، ويفهم احتياجات الناس، ويحولها إلى مشاريع قابلة للقياس والتنفيذ.
البعد الحضاري والسلوكي: تغيير ما بالنفس
المعوقات الحقيقية هي في العقلية والثقافة السائدة. “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. إذا لم يتغير الإنسان وتغيرت مفاهيمه عن الوقت والعمل والمسؤولية المجتمعية، “ستظل العشوائية موجودة والاستراتيجيات على الأرشيف”. التنمية تبدأ بتغيير داخلي، يتحول إلى سلوك جماعي منضبط يقدس الإنجاز.
البعد القيادي والحوكمة: من الرؤية إلى الإرادة
يمكن أن تكون “نافذًا من رؤية عميقة لكن في ظل حوكمة رشيدة وإرادة قوية فعلًا”. الرؤية وحدها لا تكفي. النجاح يحتاج إلى إرادة مؤسسية تترجم الكلام إلى أفعال، وتخصص الموارد، وتحمِّل المسؤولين حسابهم، وتجعل “الحوكمة الرشيدة” إطارًا حاكمًا لكل عمل. “الاستثمار في الكفاءات البشرية وإصلاح الخدمة المدنية يحققان التنمية المستدامة”.
البعد الإبداعي والتمكيني: صناعة الفكرة
“أؤمن بصناعة الفكرة”. الاستراتيجية الناجحة لا تكتفي باستيراد النماذج، بل تصنع حلولها محليًا من واقعها وتحدياتها. تحتاج إلى بيئة تشجع الابتكار، وتحتضن المخاطر المحسوبة، وتكافئ المبدعين، وتؤمن بأن “صناعة الفكرة” هي بداية الطريق لصناعة الحضارة.
توصيات : كيف نصلح “اليد المبتورة” ونستعيد “الذهب المفقود”؟
١. توصيات على المستوى الوطني (صنع البيئة المُمكّنة):
1. تحويل الاستراتيجية إلى عقد اجتماعي: إعلان الاستراتيجية الوطنية كعقد واضح بين الدولة والمواطن، مع خارطة طريق زمنية ومؤشرات أداء قابلة للقياس، ونشر تقارير دورية علنية عن التقدم.
2. إنشاء “هيئة وطنية للتنفيذ والمحاسبة”: هيئة مستقلة ذات صلاحيات واسعة لمتابعة تنفيذ المشاريع الاستراتيجية الكبرى، ويكون لها سلطة مساءلة أي تأخير أو تقصير.
3. ربط الموازنة العامة بالنتائج: تخصيص الميزانيات بناءً على خطط تنفيذية مفصلة، ووقف تمويل المشاريع غير الواضحة أو التي لا تُظهر تقدماً ملموساً.
. توصيات:
٣. على المستوى المؤسسي والإداري
(بناء اليد القادرة):
1. ثورة في الخدمة المدنية: تطبيق نظام الجدارة والكفاءة في التوظيف والترقية، وإعادة تأهيل العاملين عبر برامج تدريبية مكثفة تركز على “مهارات التنفيذ” والتحول الرقمي.
2. استبدال ثقافة “البدلائل” بثقافة “الإنجاز”: نقل التركيز من التقارير والمظاهر إلى النتائج الملموسة والأثر على حياة المواطن.
3. اعتماد أنظمة إدارة حديثة: استخدام منهجيات مثل “الإدارة بالنتائج” و “إدارة المشاريع الاحترافية (PMI/PRINCE2)”، مع منصات رقمية للمتابعة الشفافة.
٣. توصيات على المستوى المجتمعي والقيادي (توليد الإرادة الجماعية):
1. بناء تحالفات مجتمعية للرقابة: تشكيل مجالس مجتمعية (من أكاديميين، وممثلي القطاع الخاص، ونشطاء المجتمع المدني) للإشراف على المشاريع العامة وإبداء الرأي.
2. حملات توعية لتغيير الثقافة: إطلاق برامج إعلامية ومبادرات مجتمعية تعزز قيم “الإتقان” و “المساءلة” و “الوقت كقيمة”، وتسرد قصص نجاح تنفيذية محلية.
3. تمكين الشباب ورواد الأعمال: إنشاء حاضنات أعمال ومسابعات تمويلية لدعم الأفكار الريادية التي تحل مشكلات تنموية، وتشجيع “صناعة الفكرة” المحلية.
٤. خطة عمل شخصية (تغيير ما بالنفس):
1. الالتزام بالإنجاز اليومي: تحديد مهمة رئيسية واحدة يوميًا وإنجازها، كتدريب عملي على “عقلية التنفيذ”.
2. التعلم الذاتي المستمر: تطوير مهارة عملية جديدة كل عدة أشهر (كتحليل البيانات، الكتابة التحريرية، التفاوض) لزيادة الفاعلية.
3. المساءلة الذاتية والشبكات الداعمة: تدوين الأهداف وتقييم الأداء أسبوعيًا، وبناء شبكة علاقات مع أشخاص عمليين يتبنون ثقافة الإنجاز.
من الأرشيف إلى أرض الواقع
الفرق بين أمة متقدمة وأمة متخلفة ليس في وفرة الموارد أو جودة الخطط المكتوبة، بل في “اليد القادرة” التي تحول الحلم إلى واقع. الرؤية تحتاج إلى “حوكمة رشيدة وإرادة قوية فعلاً” لتصبح حقيقة ملموسة يراها المواطن في مطاره وطريقه ومستشفاه ومدرسته.
الاستراتيجية الناجحة هي رحلة جماعية تحتاج إلى:
· بوصلة واضحة (الرؤية) تُحدد الاتجاه.
· سيارة فاعلة (المؤسسات الكفؤة) تقطع الطريق.
· وقود كاف (الموارد المُوجَّهة) يضمن الاستمرار.
· سائق ماهر (القيادة الكفؤة) يتقن القيادة.
· طريق آمن (الاستقرار والحوكمة) يمنع الانقلاب.
· ركاب واعون (المواطنون المشاركون) يشاركون في الرحلة.
لن يتحقق الذهب المفقود – ذهب الفرص والموارد والطاقات – إلا عندما نصلح “اليد المبتورة”. الإصلاح يبدأ “بتغيير ما بأنفسنا”، ثم بمؤسساتنا، ثم بوطننا. لننتقل من “ثقافة الأوراق والأرشيف” إلى “ثقافة الإنجاز والأثر”.
اليد المبتورة تشير إلى العجز المؤسسي والثقافي. واجبنا أن نكون الجِراحين الذين يصلحون الأنسجة التالفة بالكفاءة والنزاهة، و “الصّنَّاع” الذين يصوغون بأيديهم العاملة مستقبلاً من ذهب الفرص المستعادة. الطريق طويل، ولكن أول خطوة فيه هي قرار “الحركة” رغم كل شيء.







