مقالات

حاجز صدّ اختراق قوى الفوضى: جدار الضوء الأخير قبل أن تكتمل دائرة الظلام

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

حاجز صدّ اختراق قوى الفوضى: جدار الضوء الأخير قبل أن تكتمل دائرة الظلام

في تلك الليالي التي انطفأ فيها القمر واختفت النجوم كأن السماء أغلقت عينيها، كانت الرياح تمر فوق الخراب تصفر كروحٍ تبحث عن شيء ضاع منها منذ قرون. خرج الناس من بين الركام كأنهم ناجون من فم وحشٍ أسود ابتلع المدن ثم لفظها حجارةً وذكريات. وفي اللحظة التي بدأ فيها اليأس يسيل في الشوارع كسيلٍ بطيء، ظهر الشيخ المجهول. لم يرَه أحد من قبل، ولم يعرف أحد من أين جاء. كان يقف على كتلة صخرية بين الأنقاض، عباءته تتحرك بلا نسمة، وملامحه كأنها محفورة من ضوءٍ خافت لا ينتمي للبشر. حين تكلّم، كان صوته كصدى يخرج من جدارٍ عتيق لا من حلقه، وقال إنه يحمل رسالة… لا من الأرض، بل من السماء.

في تلك اللحظة كان الأستاذ البلال يقف غير بعيد، يَحمل بين يديه كُتُباً مبللة بالتراب والمطر، كأنه يحاول حماية آخر بقايا العلم من الظلام. وبجانبه زوجته خديجة، المرأة التي لم تنحنِ لقوى الفوضى ولا للرعب، وكانت تمسك بيده كأنها الدرع الذي يحفظه من الانكسار. لم يكونا يعرفان أن حياتهما ستتحول، وأنهما سيصبحان قلب الحكاية.

فتح الشيخ لفافة هائلة مصنوعة من جلدٍ غريب تفوح منه رائحة ترابٍ وندى، وكلما فتح صفحة، كانت الأرض ترتجف قليلاً والنور فوق رأسه يزداد كأنه يستدعي شيئاً من عالمٍ آخر. قال إن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ليست مجرد تحية، بل حاجزٌ نوراني يمنع اختراق قوى الفوضى للقلوب. وإن انتشارها يعيد توازن الأرواح. وإن صلاة الفجر جدار الضوء الأخير قبل أن تكتمل دائرة الظلام. وحذّر أن الأطفال إذا تُركوا دون فجرٍ جماعي، ستتمكن الظلال من التسلل إلى عقولهم.

كان البلال يسمع فيشعر بأن الكلمات ليست نصائح… بل تعاويذ. وظلت خديجة تشعر بأن شيئاً ما يرفرف فوق رؤوس الحاضرين، شيئاً لا يُرى لكنه حقيقي كنبض القلب.

ثم تحدث الشيخ عن الطعام، عن الدخن والتمر، عن قوتٍ لا يحمِل جسداً فقط بل يحميه من سموم الفوضى التي اختبأت في الهواء. وعن أن القمح المستورد يجعل الأمة تتوكأ على عكازٍ غريب. وعن ضرورة إغلاق المطاعم في الصباح لأن ساعة الفجر إلى الشروق هي ساعة كتابة القدر، ومن يضيعها يضيع مستقبله.

وتحوّل صوته حين تحدث عن المدارس. قال إن التعليم يجب أن يعود إلى الأرض، وأن الطفل لا يفهم ما لا يلمسه، وأن المدارس يجب أن تنتهي قبل الظهر، وأن المدرسة الشاملة يجب أن تجمع مزرعة وورشاً ومعامل وحديقة حيوانات. وقال إن الطالب يجب أن يعرف تربية الحيوان والزراعة وإدارة ممتلكاته ودينه وأسرته، ويعيش بلا خوف. وحين قال إن المدارس الخاصة يجب أن تُلغى، اهتزّت الأرض. وحين قال إن راتب المعلم يجب أن يكون الأعلى، سطع برق بلا غيم، كأنه توقيع سماوي.

في تلك اللحظة شعر البلال بيد خديجة تضغط على يده، وقالت له همساً: “ألم أقل لك؟ السماء لا تترك الأرض حين يغرق أهلها.” فابتسم، لأوّل مرة منذ صمت طويل .

ثم تحدّث الشيخ عن الماء والنيل والأنابيب العملاقة التي يجب أن تمتد كعروق جديدة للبلاد، وعن أن الأمم التي تشرب من نهرٍ واحد لا تتقاتل. وعن الطاقة والمصانع ومنع تصدير الخام، وعن الطرق السريعة التي تمنح الأرض نبضاً جديداً، وعن المعهد الذي يعلّم الزوج والزوجة الحكمة قبل الزواج، وعن تحديد المهور، وعن إطفاء الأنوار بعد العشاء حتى تهدأ الفوضى وتستيقظ البركة، وعن هيئة قومية للبحوث تربط الجامعات بالإنتاج، وعن العلاج المجاني وتحفيز المواليد، وكلما نطق بكلمة انعكس صداها على الجدران المهدمة كأن الخراب نفسه يريد أن يتغيّر.

وعندما أنهى قراءة اللفافة، رفع عينيه نحو السماء، وصوته أصبح كأنه صوتان… أو أكثر: “وسيَجعل الله بعد عُسرٍ يُسراً.” وبينما يردد الآية، انشقّ الأفق. السحب تجمعت بسرعة، كأنها تجري نحوه، ثم انشقت عن سقفٍ هائل من حريرٍ أبيض، ممتد فوق المدينة كلها، لا يمسّ الأرض لكنه يظلّلها. كان يلمع بضوءٍ غريب، ضوءٍ فيه رهبة وطمأنينة معاً.

اختفى الشيخ كما ظهر، بلا أثر.

لكن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية… حكاية البلال وخديجة.

عندما ظهر السقف الحريري، حدث شيء لم يكن متوقعاً. الأرض بدأت تهتزّ لكن هذه المرّة اهتزاز نعيم لا فوضى.

في تلك الليلة، نام البلال وخديجة مبكرين كما نصح الشيخ. وقبل الفجر بدقائق، استيقظا بفعل صوتٍ لم يسمعاه من قبل… كصوت خطواتٍ خفيفة تمشي فوق السقف الحريري، خطوات ليست بشرية ولا حيوانية، لكنها خطواتٌ تعرف طريقها جيداً.

وحين خرجا إلى الساحة، رأيا العجب… ظهرت بقعة خضراء صغيرة قرب البيت، بقعة لم تكن موجودة في الأمس. وحين لمس البلال التراب، كان دافئاً كأنه ينبض. قالت خديجة وهي ترتجف بين الخوف والدهشة: “هذا أثر البكور… أو أثر السماء.”

ومع الأيام، صار البكور يغيّر كل شيء. كل أرض تبدأ عملها قبل الشروق، تنبت خضرتها أسرع. كل يد تُرفع بالدعاء في الفجر، تجد رزقها يأتي بطريقة أعجب من الخيال. ظهرت قصص غريبة: رجل وجد بئر ماء تحت منزله دون سبب، امرأة أنبتت شجرة رمان طرحت ثماراً خلال شهر، طفل يحفظ الدروس دون أن يقرأها مرتين. كان الناس يسمّونها بركات السقف الحريري.

ومع مرور الشهور، اكتست الأرض خضرةً كأنها تذكّرت ما كانت عليه قبل آلاف السنين. النهر توسّع، الأشجار نمت بوحشية جميلة، الحقول أصبحت لوحات سماء، والمصانع عادت تعمل، والناس صاروا يبتسمون و آثار الفوضى بداءت تختفي .

لكن لم تخلُ الأمور من الغموض. في بعض الليالي، كان البلال يسمع همساً يأتي من جهة السقف، همساً كأنه يحذّر أو يرشد. وفي مرة أخرى، رأى ظلاً طويلاً يمرّ فوق السقف، ظلّاً لا يعود لطيور ولا لغيوم. قالت له خديجة: “ربما هذه الكائنات التي تحرس الرؤية.” ومع ذلك، لم يشعروا بالخوف، بل بالشرف… كأنهم يعيشون داخل نبوءة.

وحين عاد الناس يسمون مدينتهم “الأرض التي سمعت النداء”، كان البلال وخديجة يقودان التغيير. البلال صار يعلّم الأطفال الفجر قبل القراءة، وخديجة صارت تجمع النساء لتعليمهن الزراعة والبكور والدعاء. وصار الجميع يروي القصص: قصص رعب، ودهشة، ومغامرات، وأصوات على السقف، وأضواء تمرّ في الليل، ورجالاً رأوهم يمشون بين الحقول ثم يتبخرون كالضباب.

لكنهم جميعاً كانوا يعرفون شيئاً واحداً:

أن حاجز صدّ قوى الفوضى قد ارتفع، وأن جدار الضوء حُفظ، وأن البلاد لم تعد كما كانت.

وفي نهاية كل ليلة، حين ينعكس ضوء السقف على الحقول الخضراء، يردد الناس:

هذه ليست خطة…

ولا رؤية…

ولا حتى نبوءة…

هذه بداية عهدٍ جديد بين الأرض والسماء.

د. نوال خضر

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى