مقالات

صناعة الوعي ووقف التآكل البطئ للثوابت والنبات الحسن وهدم المجتمع دون أن يشعر

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

صناعة الوعي ووقف التآكل البطئ للثوابت والنبات الحسن وهدم المجتمع دون أن يشعر

قال تعالى:

﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ﴾

وقال سبحانه:

﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾

هاتان الآيتان ليستا مجرد إخبار عن قصة مريم عليها السلام، بل تحملان قانونًا ربانيًا في التربية والبناء:

الكفالة: الإحاطة والرعاية الوجدانية والمعرفية.

النبات الحسن: البناء الأخلاقي والعلمي المتوازن.

وهذا هو عكس ما تفعله أدوات التفكيك الأخلاقي اليوم، التي تهدم “النبات الحسن” وتفصل الإنسان عن “الكفالة” الأسرية والاجتماعية والقيمية.

أول مراحل التخريب: التفكيك الأخلاقي

تبدأ عملية تخريب المجتمعات بما يُسمّى التفكيك الأخلاقي، وهي ليست عشوائية ولا آنية، بل عملية بطيئة ممنهجة تحتاج إلى جيل كامل (15–20 عامًا)؛ وهي نفس الفترة التي يُعاد فيها تشكيل عقل الإنسان، قيمه، رؤيته للحياة، ومفاهيمه حول الحق والواجب.

لماذا 20 عامًا؟

لأنها ببساطة:

مدة تكوين جيل كامل.

الفترة التي تُشكَّل فيها الشخصية والهوية.

العمر الذي تُبنى خلاله الأيديولوجيا، طريقة التفكير، والمعايير الأخلاقية.

وهي ذاتها فترة التعليم المدرسي والجامعي.

التفكيك الأخلاقي ليس ضجيجًا، بل تآكل بطيء للثوابت، يحدث دون أن يشعر المجتمع.

محاور التفكيك الأخلاقي الأربع

أولاً: الدين – تمييع الهوية الروحية

يبدأ التفكيك بمحاولة:

السخرية من القيم الدينية.

استبدال اليقين بالضبابية.

إغراق الوعي ببدائل روحية وممارسات سطحية.

ليس الهدف محاربة الدين مباشرة، بل إشغال الإنسان عن جوهر الدين:

الاتصال بالخالق، الطمأنينة، المسؤولية، بناء الضمير.

عندما يضعف الضمير، يسهل التحكم في الإنسان.

ثانيًا: التعليم – صناعة الوعي المشتت

بدل أن يُعلَّم الطالب:

الرياضيات، اللغات، الفيزياء، التحليل، المنطق…

يُغرق في:

موضوعات سطحية،

قضايا فرعية،

ميول عابرة،

ومواد تعزز الانفعال لا التفكير.

يُصبح الجيل يعرف “ما يشعر به”، لكنه يجهل كيف يفكر ولماذا.

وهنا يُبنى جيل يعرف حقوقه ويجهل واجباته.

جيل يطالب ولا يقدّم.

جيل مستهلك لا منتج.

وهذه وصفة مؤكدة لانهيار أي اقتصاد أو مؤسسة.

ثالثًا: الحياة الاجتماعية – استبدال الطبيعي بالمصطنع

يُفكك المجتمع عبر:

إضعاف الأسرة،

إلغاء المبادرة الفردية،

فصل الناس عن روابطهم الطبيعية،

واستبدالها بكيانات اصطناعية.

ومن أخطر أدوات هذا التفكيك:

الإعلام الجديد… من انتخب هؤلاء؟

كيف امتلكوا سلطة تشكيل الوعي؟

من منحهم القوة ليحددوا للناس الخير من الشر؟

رابعًا: “الصمت الأسري” – الاختراق اليومي للوعي

أخطر أدوات التفكيك ليست في الخارج، بل داخل البيوت.

اليوم نشاهد في أغلب البيوت:

كل فرد في عزلة رقمية: جوال، آيباد، كمبيوتر.

علاقات بلا حدود مع العالم…

وصمت مطبق داخل الأسرة.

الأم ليست صديقة ابنتها.

الأب غائب بالحضور الإلكتروني.

الأخوة يعيشون تحت سقف واحد لكن في عوالم منفصلة.

أقرب الناس… محرومون من أقل حق: الجلوس، الحكاية، المشاركة، الحضور.

وتذوب القيم واحدة تلو الأخرى.

تفكيك الهوية – أخطر خيط في شبكة العنكبوت

حين يُخترق التعليم والإعلام، يبدأ أخطر تحوّل:

تفكيك الهوية الأخلاقية والقيمية.

يتحوّل الإنسان إلى:

فرد يعرف “ما يريد”،

لكنه لا يعرف “ما عليه”.

يطالب بالحقوق،

ويهرب من الواجبات.

يملك حرية بلا مسؤولية،

ومشاعر بلا عقل،

وانفتاح بلا جذور.

هذه ليست حرية… إنها غسيل دماغ باسم الحرية.

السؤال المصيري: من سيدفع ثمن التفكيك الأخلاقي؟

سيدفع الثمن:

الطفل الذي فقد هويته،

الأسرة التي فقدت ترابطها،

المجتمع الذي فقد بوصلته،

والاقتصاد الذي فقد الإنسان المنتج.

كل ذلك يحدث في صمت… وفي عشرين عامًا فقط.

استراتيجية الإصلاح الأخلاقي – عكس مسار التفكيك بنفس أداته ومدة عمله

مثلما يحدث التفكيك خلال 15–20 عامًا…

فإن إعادة البناء تحتاج المدة نفسها.

وبنفس الأدوات:

التعليم،

الإعلام،

المجتمع،

القيم،

والبيت.

أساس الإصلاح: الإنسان أولاً

استراتيجية الإصلاح يجب أن تنطلق من:

1. إعادة بناء الضمير قبل بناء المعرفة.

2. تأسيس علاقة صحية بين الأسرة وأبنائها.

3. تحويل التعليم من حفظ إلى تفكير.

4. تنظيم الإعلام بدل تركه منفلتًا.

5. توازن الحقوق والواجبات.

6. تمكين المبادرات الاجتماعية.

7. بناء جيل منتج لا مستهلك.

توصيات :

1. في التعليم

إدخال مساقات التفكير النقدي والتحليل من الصفوف الأولى.

عودة المواد الكبرى (رياضيات، علوم، لغات).

ربط التعليم بسوق العمل والإنتاج.

إدماج التربية القيمية في المناهج (الضمير، المسؤولية، المبادرة).

2. في الإعلام

مدونة سلوك قيمية للمحتوى.

منصات وطنية لصناعة وعي إيجابي.

إنتاج محتوى ينافس لا يمنع.

3. في الأسرة

ساعات “لا أجهزة” يوميًا.

مجالس أسبوعية للحوار.

تمكين الوالدين من المهارات التربوية الحديثة.

4. في المجتمع

دعم المبادرات الطوعية.

إعادة إحياء الروابط الاجتماعية الطبيعية.

تعزيز ثقافة الواجب والمسؤولية.

الأمم لا تُهدم بالسلاح، بل بتفكيك “النبات الحسن” داخل الإنسان.

ولا تُبنى الاقتصادات قبل أن تُبنى الأخلاق.

ولا تنهض الدول قبل أن تنهض الأسرة، والمدرسة، والإعلام، والضمير.

وكل مشروع نهضة يبدأ من الإنسان… كما أن كل انهيار يبدأ من داخله.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى