مقالات

تقدير الذات: قراءة في هشاشة الشخصية السودانية وفقدان القدرة على نهوض المجتمع والدولة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

تقدير الذات: قراءة في هشاشة الشخصية السودانية وفقدان القدرة على نهوض المجتمع والدولة

ليس تقدير الذات قضية نفسية فردية فقط؛ بل هو الأساس الذي تُبنى عليه نهضة الأمم وقدرتها على الإنتاج والابتكار واتخاذ القرار المستقل. فعندما يُحرم الطفل من التقدير والدعم العاطفي، يتولد فيه التعلّق السريع بالآخرين، والبحث الدائم عن الاعتراف الخارجي بدل أن يستمده من ذاته. وهذه الظاهرة الفردية تمثل انعكاسًا دقيقًا للحالة السودانية: دولة فقدت ثقتها بنفسها، وأصبحت تتعلق بالخارج بحثًا عن ما كان ينبغي أن ينبته الداخل.

وهكذا تتحول أزمة تقدير الذات — على مستوى الفرد والمجتمع والدولة — إلى عامل معطل للقدرة على المبادرة، وعلى إدارة الموارد، وعلى إنتاج حلول وطنية حقيقية. فالطفل الذي لم يجد سندًا يصبح سريع التعلق، كثير الاعتماد على الآخر، عاجزًا عن اتخاذ المبادرة؛ والدولة التي نشأت على ضعف مؤسسي وغياب بناء تدريجي للثقة تصبح بدورها مترددة، عاجزة عن اتخاذ القرار، باحثة عن دعم خارجي، وفاقدة للقدرة على الإنتاج الذاتي وإدارة مواردها بكفاءة. هذا ليس وصفًا سياسيًا، بل تحليل اقتصادي–اجتماعي–إداري يعكس بنية “الذات الجمعية” التي تحتاج إلى إعادة بناء.

ويمكن النظر إلى جذور الأزمة السودانية بوصفها امتدادًا طبيعيًا لمسببات تصنع هشاشة تقدير الذات الوطني، ويمكن تلخيصها في ثلاثة محاور جوهرية ترتبط مباشرة بالتنمية المستدامة والمتوازنة: أزمة في الهوية والذات تتجلى في ضعف الثقة، والخوف من المبادرة، والبحث عن الاعتراف الخارجي، والاهتمام بالمظاهر بدل القدرات. وأزمة قيم تتمثل في ضعف الانضباط، وسيادة المجاملة على المهنية، وغياب ثقافة المسؤولية، وهي قيم تصنع بيئة تنموية غير مستقرة. ثم أزمة مؤسسات تتجسد في ضعف الخدمة المدنية، وغياب التدريب، وسوء إدارة الموارد، وهروب الكفاءات، وغياب المراكز البحثية، وهي كلها تعبر عن ذات وطنية فقدت إيمانها بقدرتها على النهوض من الداخل.

وعند الربط بين تقدير الذات والتنمية المستدامة، يتضح أن الدول التي تحترم ذاتها وتثق بقدراتها تبني إنسانها، وتطور تعليمها، وتمكّن مؤسساتها، وتستثمر مواردها، وتحوِّل رؤاها إلى مشاريع قابلة للتنفيذ. أما المجتمعات فاقدة تقدير الذات فإنها تعجز عن إدارة مواردها، وعن اتخاذ القرار، وعن حماية كفاءاتها، وعن تحويل خططها إلى نتائج. فالتنمية المستدامة ليست بنية تحتية فقط، بل تبدأ من العقل… ومن تقدير الذات.

واليوم يقف السودان أمام مفترق طرق: إما أن يعيد بناء ذاته من الداخل، أو يظل متعلقًا بالخارج بحثًا عن حلول مؤقتة لا تصنع مستقبلًا. ومن هنا يصبح هذا التحليل مدخلًا لمنهج وطني يعيد تشكيل الذات الوطنية، ويربط قوة الشخصية السودانية بقدرة الدولة على تحقيق تنمية متوازنة.

ولأجل ذلك، تصبح إعادة بناء تقدير الذات الوطني مشروع دولة كامل، يبدأ بإصلاح الخدمة المدنية ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإنهاء ثقافة المجاملة والولاءات الشخصية، وتفعيل الرقابة والمساءلة. ثم بناء رأس مال بشري قوي عبر إصلاح التعليم وتطوير التدريب ودمج التعليم بالتدريب (Integrated Learning Process) وإعداد معلم قادر على تكوين طالب وطني منتج. ويشمل ذلك أيضًا استعادة الثقة الداخلية بتقدير الكفاءات الوطنية، ومكافحة هجرة العقول، ونشر قيم الالتزام والعمل واحترام الوقت.

كما يصبح من الضروري تأسيس مؤسسات جديدة داعمة للتنمية المتوازنة، من بينها كيان وطني مثل المجلس الأعلى للتنمية المتوازنة ليكون منصة لتحليل جذور الأزمة واقتراح الحلول العملية. ويضاف إلى ذلك تفعيل الدليل الإرشادي للتنفيذ” في كل وزارة — وهو مفهوم الرائد — لسد فجوة الرؤية والتنفيذ، وتحويل الخطط إلى خطوات، والخطوات إلى مشاريع، والمشاريع إلى نتائج.

ولا يكتمل البناء دون إعادة تأسيس لمنظومة القيم الداعمة للنهضة: احترام الوقت والعمل والقانون، محاربة الجشع والسمسرة، إحياء روح المسؤولية الجماعية، تعزيز ثقافة الإنتاج والمبادرة، وإعادة الاعتبار للمهارات لا للألقاب.

إن الأمم لا تنهض لأنها غنية بالموارد، بل لأنها غنية بتقدير الذات. وحين يعيد السودان اكتشاف ذاته، ويستعيد ثقته بقدراته، ويتحرر من التعلق بالآخر، سيستطيع أن يبني تنمية مستدامة ومتوازنة تنبع من الداخل، لا من الخارج.

تقدير الذات ليس شعورًا نفسيًا… إنه قانون استراتيجي لنهضة الأمم.

وحين يتحول السودان من دولة تبحث عن منقذ… إلى دولة تصنع قدرتها بيدها… سيبدأ الطريق الحقيقي نحو النهضة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى