
ملك الخيال والسيف الأزرق المتوهّج
كانت المدينة الرمادية تبدو كأن الليل قد اتخذها وطنًا دائمًا، فالضوء الأزرق المنبعث من الشاشات غطّى الوجوه وابتلع ظلال الأطفال، ومعه ابتلع ضحكاتهم ودهشتهم وألعابهم، حتى صار الصغار يسيرون مثل أطياف لا تعرف الحياة، وعيونهم تلتصق بوميض بارد يشبه تنفّس مخلوق غريب يعيش خلف الزجاج؛ ولم يكن أحد يشعر أن شيئًا شيطانيًا يتغذّى من أرواح الصغار… إلا رجل واحد.
سامي، مدرب الرياضة الذي يحمل في روحه طفولة لا تزال تركض، كان يسمع ذلك الخفوت الخفي في نبض الأطفال، ويرى الظلال وهي تتسلّل من الأجهزة، وتتحول إلى خيوط طويلة من العتمة تتجه نحو البيوت، وكان ينام كل ليلة وهو يشعر أن المدينة تُسحب ببطء نحو فمٍ مظلم يريد ابتلاعها، وفي ركن آخر من المدينة كانت ليان، المرأة التي يشعّ من كلماتها دفء لا يشبه دفء أحد، تحاول أن تُنعش الخيال المختنق لدى الأطفال، وعندما كانت تقصّ حكاية كان نور دافئ يشتعل حولها، لكنه بدأ يختفي قصة بعد قصة، كأن الظلام يتقدّم لا كعتمة بل كـ”ظلّ ذكي” ينتزع المعنى من الأشياء.
وبينما كان كلٌّ منهما يخوض معركته بصمت، جمعهما القدر في لحظةٍ تشبه اصطدام ضوءين، وفي النظرة الأولى أدرك كلٌّ منهما أن الآخر يرى الظلال ذاتها، وفي تلك اللحظة تحديدًا انكشف السر الذي لم يفهمه أهل المدينة؛ فهناك كائن وُلد من تراكم الساعات الفارغة، من الخيال المكسور، من حركة توقفت، ومن قلب طفل لم يعد يبتكر، كائن من الضوء البارد يبني مملكته خلف الوميض، وكانوا يسمّونه “ملك الشاشة”، وكلما قلّ لعب الأطفال، ازدادت قوته، وكلما خفتت حكاية تمدد ظله، حتى صار يريد شيئًا واحدًا: اختطاف خيال المدينة بالكامل.
أدرك سامي وليان أن المواجهة لا يمكن أن تكون فردية، فاتحدا ليعيدَا الحياة قبل أن يفقد الصغار القدرة على الحلم، فأعاد سامي الحركة إلى الساحات وبدأ الأطفال يركضون من جديد، بينما أعادت ليان الحكاية إلى الليل وبدأ الخيال يستيقظ بصوتها، وكلما ضحك طفل كانت تظهر كرة ذهبية صغيرة في السماء تضعف منها مملكة الظلال، ومع ازدياد هذا الضوء بدأ ملك الشاشة يهتز ويحشد قوته ويستعد لهجومه الأكبر.
وفي ليلة بلا ريح، انطفأت المدينة فجأة وتحولت الشاشات إلى مرايا سوداء، ثم خرج من داخلها وميض بارد كأذرع زجاجية طويلة تبحث عن الأطفال كأنها تصطاد أحلامهم، وارتجفت الأرض وتوقفت الأصوات وانقسمت المدينة نصفين، نصف في الضوء البارد ونصف في الظلام الخالص، وفي قلب الفوضى وقف سامي يحمل سيفًا أزرق يتوهج كلما لعب طفل أو تحرك أو ضحك، سلاح لم يُصنع من الحديد بل من طاقة الحياة نفسها، بينما كانت ليان تحمل كتابًا سحريًا صفحاته تلمع كلما نطقت بكلمة من قلبها.
ومعًا عبرا بوابة الشاشة إلى عالم ملك الظلال، فإذا بمدينة زجاجية تمتد بلا صوت، غابات من الأسلاك ترتجف ككائنات حيّة، وبحيرات من الضوء البارد تعكس وجوه الأطفال المعلّقة بين عالمين، وكل خطوة كانت تجلب معها صرخة زجاجية، إذ كانت الأذرع الزرقاء تلتف حول سامي، تطفئ سيفه شيئًا فشيئًا وتدفعه للسقوط، حتى بدأ نور السيف يضعف والخطوة تثقل والمدينة تبدو وكأنها تتلاشى من أفق النجاة.
لكن ليان وقفت إلى جانبه، وضعت يدها على كتفه كمن يعيد روحًا إلى قلب، وفتحت كتابها وبدأت تروي بصوت يشبه نسيمًا دافئًا وسط عاصفة: قصة طفلٍ لم يستسلم رغم ظلام العالم، وقصة بطلٍ انتصر لأنه أحبّ من حوله، وقصة نورٍ يولد من الخيال لا من الكهرباء، ومع كل كلمة ارتفع ضوء الكتاب إلى السماء ثم انفجر كعاصفة ذهبية، وتحول إلى آلاف الطيور النورانية التي هاجمت ملك الظلال ومزقت جسده المنسوج من الضوء البارد.
صرخ الملك صرخة جعلت عالمه يتصدع، وانكسرت مملكته الزرقاء مثل زجاج يسقط من علو شاهق، وانطفأت الظلال وتحررت الشاشات وعاد الأطفال إلى الواقع بعيونٍ تلمع بالحياة كأنهم يرون الشمس لأول مرة، وامتلأت الساحات مجددًا وعاد الدفء إلى البيوت، وعادت القصص إلى صدور الصغار قبل آذانهم.
وفي لحظة الانتصار، وقف سامي بجوار ليان وسط احتفال المدينة، ينظر إليها كمن وجد نصف روحه الغائب، فابتسمت واقتربت ووضعت يدها في يده وقالت بصوت يلمس الروح: “لقد هزمنا الظلال… لأن قلوبنا أبقت على النور”، وهكذا انتصر البطل وفازت البطلة وانتصرت الحكاية على الشاشة وعاد الخيال ملكًا من جديد.





