
استراتيجية رجل من بحر أبيض يبيع الضحك ويصنع الفرص
• في القرى المترامية على ضفتي بحر أبيض، حيث تتقاطع مواسم الزراعة مع حركة الأسواق اليومية، تنشأ من حين لآخر شخصيات تمتلك بصيرة لا تُدرس في الكتب، لكنها تصنع واقعاً يدوم أثره طويلاً.
• ومن بين هذه الشخصيات يبرز ود الولي، واحد من أبناء جيل المدارس الصغرى، الجيل الذي نشأ في أواخر الخمسينات وبدايات الستينات في زمن شهدت فيه قرى بحر أبيض نهضة اقتصادية واجتماعية معتبرة، انتعشت فيها الأسواق بفضل المشاريع الزراعية التي أقامها أهل الخير من رواد الرأسمالية الوطنية وبعض الشركات الأجنبية.
• ذلك الجيل، الذي عاش ازدهار ما قبل ثورة أكتوبر، هو الذي قاد المجتمع لاحقاً وشكّل قالب الحياة الجديدة، قبل أن تعصف به الثورة وما تبعها من سياسات تأميمٍ وتطهيرٍ أدت إلى تفكك كثير من تلك المشاريع، وانحدار الأوضاع الاقتصادية نحو الفقر والبؤس الذي لا يزال يصبغ الحياة في بحر أبيض.
• برز جيل ود الولي في تلك الظروف التي ازدهرت فيها الحياة ببحر أبيض، وصاروا قيادات نقابية وسياسية، وأسّسوا طبقة تجارية مثقفة، حملت روح المبادرة والفعالية.
• ومن بين هؤلاء كان ود الولي، الذي أتقن ما يمكن وصفه بـ “التجارة القطاعية الوسيطة”، أي التجارة الواقعة بين تجار الجملة والتجزئة، والتي جعلها منصة لنجاحه وتميزه.
• كانت المشاريع الزراعية في شمال بحر أبيض، وخاصة غرب النيل حول قرية الصوفي التي هي محور هذه الحكاية، ذات جدوى وجودة، فجذبت قبائل كثيرة من ولايات الغرب وغرب بحر أبيض.
• وازداد السكان، فانتعشت الأسواق، وظهرت منظومة أسواق “أم دورور”: مجموعة أسواق دائرية كل يوم سوق في قرية.
• السبت شيخ الأسواق في الشقيق، سوق الصوفي يوم الأحد والأربعاء، ود نمر والحسين الجمعة والثلاثاء، والشاتاوي وقوز البيض أسواق مشتركة يومي الخميس والاثنين. وهكذا ظلّت أسواق “أم دورور” تنبض بالحياة على مدار الأسبوع.
• لم يكن ود الولي يعرف كلمة “استراتيجية”، لكنها كانت عنده بالفطرة، مارس جوهرها دون أن يتعلم نظرياتها.
• وغالباً ما تسبق الفطرة التنظير، وما فعله في أسواق أم دورور يشبه، بصورة مذهلة، ما سيقدمه مايكل بورتر بعد عقود في كتابه الشهير “الاستراتيجية التنافسية”، الذي وضع فيه، في ثمانينيات القرن الماضي، مبادئ الميزة التنافسية.
• فقد مارس ود الولي، دون أن يسمي ذلك استراتيجية، المبادئ ذاتها: قرأ البيئة كما تُقرأ “قوى السوق” عند بورتر، وحدد الفجوة السلعية كما يحدد الخبير “فرص الدخول” في المنافسة، ثم اختار التركيز على سلعة واحدة واحتل زاويتها، وهو ما يسميه بورتر “استراتيجية التركيز”.
• أما حصوله على أرخص مورد وضمانه للجودة، فقد كان تطبيقاً مبكراً لاستراتيجية “قيادة التكلفة” و”التميّز” معاً.
• هكذا، بضحكته الواسعة وبصيرته الريفية، سبق ود الولي نظريات الإدارة الحديثة، وطبّق جوهرها قبل أن تُكتب كتبها.
• فبدأ أولاً بـ قراءة البيئة الاجتماعية والاقتصادية: عادات الناس، دخلهم، محاصيلهم الغذائية، وحاجاتهم.
• ومع ملاحظته لخلو الأسواق من خضروات مثل البطاطس والباذنجان والبامبي والرجلة، وتوفر أخرى سهلة الإنتاج ورخيصة الأثمان، مثل كالملوخية والبامية واللوبيا، تكتشفت له فجوة سلعية.
• فقد كانت مجموعة الخضروات المتوفرة بكثرة وفي متناول مقدرة الناس المادية كالملوخية والبامية واللوبيا، تحتاج لـ”كاتول”، كمادة مساعدة على استوائها عند الطبخ.
• هذه المادة هي التي تعرف لدى العامة بالعَطرون، الذي لم يكن معروفاً لديهم حينها باسمه العلمي: الكربونات والبيكربونات.
• هنا أدرك ود الولي مجاله التجاري، التخصص في تجارة العطرون، فكان يأتي به من الحدود الليبية عبر اللواري السفرية التي كانت تعمل في تهريب البشر بين أم درمان وليبيا، ثم تُعود بشحنات العطرون منها.
• كان ود الولي يشتري العطرون بأرخص سعر، ويوفره بكميات كافية للأسواق، ويضمن جودته عبر رجل متخصص في كسر حجارة العطرون لفرز الجيد من الرديء.
• لكن سر نجاحه ما كان في البضاعة وحدها. فسرّه الحقيقي كان في الابتسامة. فقد كان ود الولي بشوشاً، ودوداً، خفيف الظل، يرد على كل سؤال، سواء عن السكر أو البن أو العطرون، بطرفة وضحكة، حتى قيل عنه أنه كان تاجراً “يبيع الضحك”.
• لم تُكشف تفاصيل نجاح ود الوالي إلا بعد وفاته، حين ظهرت ثروته: ذهب وبضائع ثمينة، وأموال كانت محفوظة بعيداً عن أعين الناس.
• وظل ود الولي، بابتسامته الدافئة وبساطته المعهودة، رمزاً للتاجر الذي يصنع الفرص وهو يبيع الضحك في الوقت ذاته.
• لو عاد خبير استراتيجي حديث ليقرأ تجربة ود الولي، سيجد تجربة تحمل مبادئ بورتر في الميزة التنافسية قبل أن تُكتب نظرياتها بعقود.
• فقد فهم الرجل “سلسلة القيمة”: من الشراء، الفحص والجودة، التخزين، البيع، خدمة الزبائن، مع إضافة لمسته الخاصة التي أعطت منتجه قيمة إضافية لا تُقدر بالمال فقط.. كما حدّد “المركز التنافسي” وبنى عليه.
• رحم الله ود الولي وأجزل له الثواب، فقد كانت سيرته من مصادر الأنس والذكريات، أنا وصديقي أحمد حميدة أب شنب، نقلب فيها صفحات من ماضي بحر أبيض، نستعيد معها قصص الناس، الأسواق، والضحكات التي لا تُن٧سى.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.




