أخبار

زراعة الإرادة: البستنة كمدخل استراتيجي لإعادة تشكيل الاقتصاد الزراعي في السودان

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

زراعة الإرادة: البستنة كمدخل استراتيجي لإعادة تشكيل الاقتصاد الزراعي في السودان

﴿وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَٱلَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا  كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾

سورة الأعراف – الآية 58.

كثير ما اذهب الى مسجد السجانة ويعجبني الخطاب الدعوي لجماعة انصار السنة المحمدية وفي ذات الوقت مديح الحبيب المصطفي من سادتنا الصوفية وشيخ أبوزيد ربنا يتقبله ويرحمه وبدأ في تفسير الاية اعلاه :

يشبّه الله الأرض الطيبة التي تُخرج نباتها بإذن الله، بالأشخاص الطيبين الذين ينتفعون بالوحي والهداية، فيثمرون خيرًا وصلاحًا.

أما الأرض الخبيثة (المالحة أو الفاسدة)، فلا تخرج إلا نباتًا ضعيفًا وشحيحًا، وهي كناية عن النفوس الخبيثة التي لا تستجيب للهُدى.

وهكذا يُبيِّن الله الآيات ويُفصّلها لقوم يشكرون نِعَم الله ويستفيدون منها.

تشبيه قرآني بليغ يرسم الفرق بين من ينتفع بالهُدى ومن لا ينتفع، كما تختلف الأرض الطيبة والخبيثة في عطائها وحديث الشيخ لا يخلو من الدعابة والطرفه اضاف البلد الطيب يخرج نباته عنب، تين ، فراوله،رمان..والذي خبث خبث لا يخرج الا نكدا نبق ، دوم ، قضيم …. ضحك الجميع وبعدها اضاف وقال النبق والدوم والقضيم هذه أيضا طيبات ونعم من الله سبحانه وتعالى وهبه من الله إلى أرض السودان الطيبة وهي متوفرة عندنا ولكن قصدت أن أقول نحن نريد زراعة العنب والفراولة والتين وغيرها من الفاكهة عندنا في أرض السودان الطيبة. وبعدها قراء الآية:

﴿وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا  وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌۭ دَانِيَةٌ وَجَنَّـٰتٍ مِّنْ أَعْنَـٰبٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ  ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكُمْ لَءَايَـٰتٍ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ﴾

سورة الأنعام – آية 99

الله تعالى هو الذي أنزل المطر من السماء، فأخرج به النبات بمختلف أنواعه.

ينبت الزرع، ثم يخرج منه الخُضرة، ومنها ينبت الحبوب المتراكبة كالقمح والشعير.

ويخرج من النخل عراجين (قنوان) متدلية يسهل جنيها.

وينبت الكروم (العنب)، والزيتون، والرمان، وكلها فيها شبه في الشكل، لكنها تختلف في الطعم واللون والرائحة.

يأمرنا الله بالتأمل في الثمر حين يُثمر وينضج، لأن في ذلك دلائل على عظمة الخالق وقدرته لمن يؤمنون ويتفكرون.

“ليست الأرض وحدها التي تثمر، بل الإنسان إذا آمن بقدراته، يزرع الحياة في أي تربة.”

سنوات طويلة مرّت على ما طرحه الشيخ أبو زيد، من رؤى مبكرة حول إمكانية زراعة فواكه مثل العنب، والتين، والزيتون، والفراولة في السودان، وقد تبدت تلك الرؤى في بدايتها كأحلام نادرة التحقق في بيئة طالما ظنها البعض غير صالحة إلا لزراعة القطن والصمغ العربي وبعض الحبوب الموسمية. غير أن التجربة الواقعية المثبتة، التي تحدّث عنها الأستاذ فتح الرحمن محمد فقير، مسؤول مراقبة جودة النظم والبرامج، أعادت طرح تلك الأحلام بلغة الأرقام، والإنتاج الفعلي، والإرادة الحقيقية.

في مقطع قصير، يصف فقير تجربته الشخصية شمال أم درمان، شرق الكلية الحربية، حيث أثبتت مزرعته نجاح زراعة العنب، والتين، والزيتون، والرمان، والفراولة، مؤكدًا أن أرض السودان ومناخه صالحة لزراعة أي نوع من أنواع الفاكهة. لم تكن المشكلة في التربة، بل في طريقة التفكير الزراعي السائدة، والتي ما تزال حبيسة النمط الأحادي الذي كرّسته السياسات الزراعية منذ عهد الاستعمار، حيث تم التركيز على القطن، وإغفال جانب البستنة الذي يُعد في كثير من الدول أساسًا للاقتصاد الأخضر، ومصدرًا عالي العائد مقارنة بالمحاصيل التقليدية.

فقير لم يتوقف عند إثبات الجدوى، بل قدّم نموذجًا عمليًا لإنتاج آلاف الشتول، وزراعة سبعة أصناف من العنب بأربعة أنماط مختلفة: البارون، الأفقي، العريشي، والأرضي، إلى جانب معالجات بيئية دقيقة كتوفير الرطوبة عبر زراعة النجيل والأعشاب تحت الأشجار، وهو ما يؤكد أهمية التكامل البيئي في البستنة الحديثة.

الحديث عن البستنة لا يتعلق بالزراعة فقط، بل يدخل ضمن محور التحول الاقتصادي الزراعي، والذي أشارت إليه الاستراتيجية القومية ربع القرنية (2007–2031م)، لا سيما في دعوتها لتنويع الإنتاج وتعظيم القيمة المضافة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الهدر. غير أن ما فشلت فيه السياسات العامة، نجحت فيه التجارب الفردية.

وإذا نظرنا إلى التجارب الدولية، سنجد أن دولًا مثل المغرب، وتركيا، وإسبانيا، تحوّلت إلى قوى مصدّرة للفواكه الطازجة والمجففة والزيوت، من خلال سياسات داعمة للبستنة: تمويل البحوث الزراعية، توفير الشتول المُحسّنة، الدعم الفني، التحفيز التصديري، والارتباط بين التعليم الزراعي والسوق. بل إن بعض الدول قد أنشأت هيئات مختصة بالبستنة الاقتصادية، ترتبط بالمجالس التصديرية، وتُعنى بتطوير سلاسل القيمة الزراعية.

اقتصاديًا، إنتاج شجرة عنب واحدة يصل إلى 30–35 كجم، وإذا ضُرب ذلك في مئات الأشجار، فإن العائد يتحوّل إلى اقتصاد مصغر ذي جدوى عالية. اجتماعيًا، يوفر هذا النوع من الزراعة فرص عمل متجددة، تشمل الشباب والنساء، في الإنتاج، والقطاف، والتغليف، والتصنيع. إداريًا، يتطلب الأمر تحولًا في فلسفة إدارة المشاريع الزراعية من نمط الريف المبعثر إلى المشروعات التكاملية المتكيفة مع السوق. قانونيًا، هناك حاجة إلى أطر تشريعية تضمن حماية الأصناف، وتنظيم السوق الداخلي، والتحكم في الجودة والتسويق.

فالسودان، رغم موارده، لم يُصدّر هويته الزراعية كما ينبغي. والتجارب الفردية كفقير وغيره، يمكن أن تُبنى عليها رواية وطنية عن الزراعة الحديثة، تُستخدم كقوة ناعمة في العلاقات الدولية، خاصة في الأسواق العربية والإفريقية التي تتوق لمنتجات طازجة.

ما ينقص السودان، كما قال الأستاذ فقير، ليس الأرض ولا الشمس ولا الماء، بل العزيمة والإصرار وأدوات الزراعة الحديثة. وإن كانت “التربة الولود” تنتظر من يوقظها، فإن البستنة ليست مجرد إنتاج ثمار، بل زراعة إرادة، واستثمار في المستقبل، وتأسيس لاقتصاد غير هش، يقوم على التنوع والاستدامة.

تصورًا مقترحًا لوزارة الزراعة في السودان يوضح القيم، والرؤية، والرسالة ضمن سياق البستنة والتنمية الزراعية الحديثة، و استراتيجية: وزارة زراعة تعيد تشكيل المستقبل

إن نجاح التجارب الفردية في زراعة العنب والتين والزيتون والفراولة، يطرح أمام وزارة الزراعة السودانية ضرورة إعادة تعريف ذاتها، من مجرد جهاز تقني تقليدي إلى مؤسسة استراتيجية تصوغ السياسات الزراعية في ضوء القيم الحديثة والممكنات الوطنية والتحديات العالمية.

ولتتحقق هذه النقلة، يمكن أن تُبنى الوزارة على الأسس الآتية:

الرؤية:

زراعة سودانية متنوعة، مستدامة، عالية القيمة، تُسهم في الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني، وتفتح آفاق التصدير، وتستند إلى المعرفة والتكنولوجيا.

الرسالة:

تطوير القطاع الزراعي عبر سياسات داعمة للابتكار، وتمكين المنتجين، وتحفيز الاستثمار في البستنة والمحاصيل ذات العائد العالي، وتوفير بنية تحتية زراعية شاملة ومتكاملة.

القيم الحاكمة:

الاستدامة: حماية الموارد الطبيعية وتعزيز كفاءة استخدامها.

التمكين: دعم المزارعين والمبادرين بالمعرفة والتمويل والتقنيات.

الشراكة: التكامل مع الجامعات، والمجتمع، والقطاع الخاص.

الشفافية: ضمان العدالة في التوزيع وتقييم الأداء على أسس علمية.

الابتكار: اعتماد أساليب وتقنيات حديثة في الزراعة والإدارة.

السيادة الغذائية: تقليل الاعتماد على الاستيراد وتعزيز الإنتاج المحلي.

إن السودان لا يحتاج فقط إلى وزارة تُشرف على الري والتقاوي، بل إلى وزارة تقود تحوّلًا استراتيجيًا، تجعل من الزراعة مشروعًا اقتصاديًا وطنيًا متكاملًا، وتعيد الاعتبار إلى فواكه الأرض وإنسانها، وتربط التراب بالإرادة، والإنتاج بالكرامة، والعلم بالنهضة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى