مقالات

الحجر الأول في بناء الدولة: حين تغيب الجدارة يحضر الارتباك وتغيب الثقة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الحجر الأول في بناء الدولة: حين تغيب الجدارة يحضر الارتباك وتغيب الثقة

في عالم تتسارع فيه التحولات، لم تعد الدول تُقاس بكثرة مؤسساتها أو حجم مبانيها أو عدد موظفيها، بل بقدرتها على إنتاج الكفاءة واستبقائها، وبتفعيل الجدارة في المواقع القيادية، وبالقدرة على تحويل المؤسسات إلى منظومات تعمل وفق قيمة واحدة: تحقيق المصلحة العامة بأعلى كفاءة وأعلى نزاهة.

إنّ غياب الجدارة لم يعد مشكلة إدارية فحسب، بل أصبح أزمة تنموية واقتصادية واجتماعية وقانونية، لأنه ينعكس مباشرة على جودة الخدمات، ومستوى الإنتاج، وصورة الدولة داخليًا وخارجيًا، ويُضعف الثقة العامة، ويخلق بيئة طاردة للكفاءات.

حين تُستبدل الكفاءة بالمجاملة: قصة من قلب الواقع

من التجارب المؤسسية التي تكشف عمق المشكلة، أن تُعيَّن إدارة عليا على مؤسسة حكومية كبيرة دون صلة حقيقية بطبيعة العمل، ثم يُدفع بالناس إلى مواقع حساسة بلا تدريب ولا مؤهلات، الأمر الذي يقود إلى ارتباك مؤسسي يصعب إخفاؤه.

حدث أن تم تعيين مدير عام جديد لا يمتلك خبرة الإدارة ولا اللغة الإنجليزية، ثم لحق به أحد نوابه بالطريقة نفسها، ليتولى ملف العلاقات العامة والإعلام دون تدريب أو معرفة.

وجاء يوم زيارة وفد رفيع من الأمم المتحدة. وفي أثناء ذهابي إلى العمل رأيت زميلاً—أعرف جيدًا قوته في اللغة—يحمل قاموسًا إنجليزيًا ليراجع كلمات قد يحتاجها. سألته بدهشة، فقال:

“تم تكليفنا من المدير العام بمخاطبة الوفد الأممي… ونحن نبحث عن حلول اللحظة الأخيرة!”

وصل الوفد الأممي، وانتظر المدير أن يبدأ من كُلِّفوا بالحديث… لكنهم صمتوا. وحين تكلّم رئيس الوفد بالعربية، أدرك المدير حجم الارتباك، فسألهم بحدة:

“من كلّفكم؟ ولماذا لم تتحدثوا؟”

فردّ أحدهم بجملة أثارت الدهشة:

“نحن وضعنا خطة دفاعية… ننتظرهم يبدأوا ثم نرد.”

هذه اللحظات الصغيرة تكشف هشاشة الاستعداد المؤسسي، وغياب التدريب، وانعدام ثقافة الجدارة. فبدلاً من أن تمتلك المؤسسة طاقمًا جاهزًا ومحترفًا، كانت تعتمد على حلول مرتجلة، وقرارات غير مبنية على تقييم حقيقي للكفاءة.

ولم يقف الأمر هنا؛ فقد أُرسل اثنان من الموظفين إلى دورات ببريطانيا، لكنهم عادوا كما ذهبوا، لأن التدريب الذي لا يقوم على اختيار صحيح ولا يُقرَن بمتابعة مؤسسية، لا يتحول إلى قيمة.

أما نائب المدير المسؤول عن الإعلام—وكانوا ينادونه “شيخ”—فكان بارعًا في الخطابة، لكنه يستعمل عبارات تثير الاستغراب في مؤسسة محترفة، مثل قوله المتكرر:

“كان ما عجني… منو البجيني؟”

وهو خطاب يثير ضحك البعض، وامتعاض المؤهلين. وقد قالت زميلة دكتورة، غاضبة من تدني الخطاب:

“نحن لا نعمل في بيتك… هذه مؤسسة محترمة.”

ثم تركت العمل إلى مؤسسة دولية، لنفقد كفاءة كان يمكن أن تكون لبنة في نهضة الدولة.

وما يزيد الصورة تعقيدًا أن مدير عام الموارد البشرية في المؤسسة نفسها عبّر يومًا عن ضيقه من الموظفين وكثرة طلباتهم، وقال صراحة إنه “زهج من الرد عليهم”، وإنه يرغب في تكليف موظف—كان موجودًا بالفعل داخل المؤسسة ويُعرف بحدة طبعه وسلاطة لسانه—بمسؤولية الرد على الموظفين “بردود توجعهم” حتى يكفّوا عن طرح مطالبهم أو استفساراتهم.

هذه العبارة، رغم بساطتها، تعكس انهيارًا في الفهم الحقيقي لوظيفة الموارد البشرية؛ فبدلاً من أن تكون إدارة للثقة والدعم وتنظيم الحقوق، تتحول إلى أداة ردع نفسي، تُعمّق الجفوة، وتزرع الخوف، وتُضعف الانتماء المؤسسي، وتطرد الكفاءات في صمت.

هذه قصة واحدة من آلاف القصص التي تؤكد أن غياب الكفاءة ليس حدثًا عابرًا، بل نزيف مستمر للقدرات.

الأثر الاستراتيجي لغياب الكفاءة

تنخفض الإنتاجية، وتزداد تكلفة الأخطاء، ويُعاد العمل مرات متعددة بسبب ضعف الجودة. كما تُهدر الميزانيات في تدريب عشوائي أو تعيينات مجاملة، مما يخلق عبئًا على الاقتصاد الوطني ويضعف قدرة الدولة على الاستثمار في الأولويات.

عندما يغيب معيار الجدارة تتآكل الثقة الداخلية، ويتراجع الانضباط، وتتحول القرارات إلى ردود فعل، ويزداد الاعتماد على الارتجال بدل التخطيط، وتنتشر “ثقافة التبرير” بدل ثقافة الإنجاز.

تتولد بيئة محبطة تُطفئ روح المبادرة، لأن الموظف الكفء يشعر بأن جهده لا يُقدَّر، وأن المواقع لا تُمنح بناءً على قدرات. ومع الوقت، ينسحب المبدعون، وتزداد مستويات الاحتراق الوظيفي، ويتسع الفارق بين المؤسسة وبين المعايير الحديثة للقيادة والأداء.

يفقد الناس الثقة في المؤسسات العامة، وتنتشر السخرية والمزاح حول الأداء العام، ويظهر شعور عام بأن “لا شيء يتغير”، وهو شعور خطير لأنه يقتل روح الانتماء والمسؤولية.

تزداد المخاطر التعاقدية، وتظهر قرارات غير منضبطة، وتتوسع مساحة الاجتهاد الفردي غير المؤسسي، مما يخلق ثغرات كبيرة في الالتزام بالمعايير الوطنية والدولية.

كل مؤسسة حكومية هي واجهة للدولة. وعندما يظهر الارتباك أمام وفد دولي أو شريك خارجي، فإن صورة الدولة تتأثر مباشرة، وتضعف الثقة في مؤسساتها وقدرتها على تنفيذ برامج مشتركة.

كيف نبني مؤسسة تعرف قيمة الكفاءة؟ (رؤية استراتيجية)

1. إرساء مبدأ الجدارة في شغل المناصب القيادية دون استبدالها بالمجاملة أو الولاء.

2. اختيار قادة يمتلكون المعرفة والمهارة والسلوك، لأن القيادة غير المؤهلة تنتج منظومة مضطربة بالكامل.

3. تدريب مستمر مبني على تقييم علمي للكفاءة لا على إرسال عشوائي للدورات.

4. تطوير لغة المؤسسة وخطابها الداخلي بحيث يعكس احترامًا للمكان وللموظفين.

5. وضع سياسات تمنع خسارة الكفاءات وتضمن بيئة عمل تحترم المؤهلين وتستبقيهم.

6. تأسيس ثقافة مهنية تعتمد على التحسين المستمر لا على ردود الفعل اللحظية.

7. تقوية نظم المتابعة والتقييم باعتبارها أداة للإنصاف قبل أن تكون أداة للأداء.

إنّ الكفاءة ليست خيارًا إداريًا، بل شرط وجود لأي دولة تطمح للنهوض.

والقصة أعلاه ليست رواية للسخرية، بل شهادة على تحديات بناء الدولة الحديثة حين يغيب معيار الجدارة.

ننهض حين نحترم الكفاءة، ونحميها، ونمنحها بيئة عادلة، وحين يصبح الخطاب العام راقيًا، وتصبح المؤسسات قائمة على العلم والمهارة والنزاهة.

وحين نعيد الاعتبار للإنسان الكفء…

نكون قد وضعنا الحجر الأول في بناء الدولة التي نحلم بها.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى