العمود الفقري للأداء الحكومي واستثمار الموارد البشرية: إصلاح وتعديل تشريعات الخدمة المدنية
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

العمود الفقري للأداء الحكومي واستثمار الموارد البشرية: إصلاح وتعديل تشريعات الخدمة المدنية
تمثل تشريعات الخدمة المدنية العمود الفقري الذي يُبنى عليه الأداء الحكومي، وتُقاس من خلاله كفاءة الدولة وقدرتها على حماية الإنسان، واستثمار الموارد البشرية، وبناء اقتصاد منتج، وتحقيق التنمية المستدامة. ومن دون تشريعات عادلة ومرنة ومتسقة مع الرؤية الوطنية، تصبح المؤسسات ضعيفة، والموظفون محبطون، والإنتاجية منخفضة، وتغيب الثقة بين المواطن والدولة. وإنّ الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإنسان قبل القانون، ومن القيم قبل النصوص، ومن العقل المؤسسي قبل الإجراءات.
ومن التجارب الدالة على هشاشة التشريعات القديمة، ما حدث في فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري؛ إذ كان أحد المهندسين الزراعيين العاملين بالمؤسسة الزراعية بالنيل الأبيض قد سافر في إجازته الرسمية، ولما عاد مع أسرته ليمارس عمله فوجئ بأنه فُصل من الخدمة وطُلب منه إخلاء المنزل الحكومي فورًا، فوقع عليه الأمر كالصاعقة حتى أصيب بالشلل من هول الصدمة. لم يكن الخطأ في الرجل، بل في التشريع الذي لم يُراعِ البعد الإنساني، ولم يدرك أن الموظف إنسان له أسرة وحقوق وكرامة. وفقدان هذا البعد هو ما جعل الخدمة المدنية في السودان أقرب إلى “مشروع إعاشة” منها إلى مشروع إنتاج وتنمية.
وفي المقابل، نجد المغترب السوداني الذي اضطر للهجرة ليس نقصًا في الكفاءة، ولا بحثًا عن رفاهية، وإنما هروبًا من غياب الرؤية في بلد غني بموارده، فقير بإدارته الاستراتيجية. ومع ذلك، حين يعود، لا يُعامل معاملة من خدم الدولة من الخارج، رغم أنه ظل رافدًا ماليًا واقتصاديًا وفكريًا لها. والمستقبل وفق لإستراتيجية رعاية المغتربين يقتضي أن يُنظر للمغترب بوصفه موظفًا يعمل لصالح الدولة في الخارج، تُربط التزاماته المالية براتب التقاعد، وتُضم سنوات خبرته إلى سجله الوظيفي، ويُتاح له الاندماج الكامل عند العودة دون تعقيدات.
وتقتضي الرؤية الاستراتيجية الحديثة أن تكون الإجازة بدون راتب، لأسباب موضوعية أو ظروف طارئة أو لاكتساب مهارة جديدة، حقًا لا يعاقَب عليه الموظف بالحرمان من الترقي أو التقييم؛ لأن التشريع ليس غايته العقاب، بل تمكين الموظف من تطوير نفسه، ورفع مستوى إنتاجيته، وإعادته إلى المؤسسة أكثر نضجًا وكفاءة. والموارد البشرية هي رأس المال الحقيقي للدولة، وما لم توضع التشريعات في خدمة الإنسان فلن تحقق التنمية أي تقدم.
وترتبط العدالة المؤسسية أيضًا بتصحيح نظام البدلات والحوافز، فالمؤهل الأكاديمي مكانه الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، ولا معنى لصرف بدل مؤهل علمي لموظف يعمل في وظيفة إدارية لا تحتاج بالضرورة إلى هذا المؤهل. فالتحفيز الحقيقي يجب أن يرتبط بالزمالات المهنية والشهادات العملية والمهارات التي تقدم نتائج ملموسة في طبيعة العمل. كما يجب التخلص من البدلات التي تتعارض مع السياسات الوطنية، مثل منح المدارس او حافز المدارس الذي يمنح للموظفين بداية العام الدراسي، لأن التعليم العام — وفق أهداف التنمية المستدامة — يجب أن يكون مجانيًا ومتاحًا. وحتى بدل الوجبة يمكن تحسينه عبر تقديم وجبة بسيطة وشعبية داخل المؤسسة تُقدم للجميع بلا تمييز، لأن العدالة تبدأ من أبسط التفاصيل.
وتستدعي التجارب الناجحة في العالم إعادة النظر في ساعات العمل وطبيعتها، فدول عديدة خفّضت ساعات العمل لرفع الإنتاجية وتعزيز الصحة النفسية، وأظهرت نتائج إيجابية من حيث جودة الخدمة والمخرجات. كما أن الظروف الاستثنائية — حروب، كوارث، نزوح — تتطلب إجازات استثنائية بنصف راتب مع الحفاظ على المستحقات السنوية والتأمين الصحي والاجتماعي، حماية للإنسان قبل الوظيفة.
وحتى يتحول هذا الفهم إلى ممارسة، يجب إعادة بناء منظومة التقييم والترقي على أساس الكفاءة والإنجاز والمهارات لا على الولاء أو العلاقات؛ فالترقي في الخدمة المدنية ليس هِبة، بل استحقاق مبني على نتائج قابلة للقياس. وفي قلب هذه الرؤية يكمن مبدأ الإتقان: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه.» وهو مبدأ إداري، اقتصادي، أخلاقي، وروحي يصنع الفرق بين المؤسسة المنتجة والمؤسسة المترهلة.
وتقود هذه الرؤية إلى جملة توصيات عملية داخل صميم إصلاح التشريعات، أبرزها ربط القوانين بالرؤية الوطنية والاستراتيجية العامة للدولة، واعتماد المرونة الإنسانية كأساس للتشريع، ومعاملة المغترب جزءًا من الخدمة العامة، وربط الحوافز بالمهارات والنتائج، وضبط البدلات بما يتسق مع العدالة والاستراتيجية، وتبني تجارب عالمية ناجحة في تنظيم ساعات العمل، وحماية السكن الوظيفي بضوابط عادلة، وبناء نظام تقييم يعتمد على الكفاءة، وتأسيس ثقافة التعلم المستمر داخل المؤسسة. فالتشريع الذي لا يراعي الإنسان يفقد قيمته، والتشريع الذي لا يخدم التنمية يفقد وظيفته، والتشريع الذي لا يتسق مع الاستراتيجية الوطنية يصبح عبئًا على الدولة لا أداة للنهوض.
أن إصلاح الخدمة المدنية ليس مراجعة نصوص أو تحديث لوائح، بل إعادة بناء الفلسفة التي تُدار بها الدولة، وتأسيس عقل مؤسسي يحترم الإنسان، ويستثمر طاقته، ويمكّنه، ويمنحه تشريعات تراعي واقعه وتفتح له أبواب المستقبل. وعندما تتسق التشريعات مع الاستراتيجية، وتُصاغ بروح إنسانية، وتُترجم إلى ممارسات عادلة، ينتقل الجهاز الحكومي من إدارة الأزمات إلى صناعة المستقبل. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من فكرة، والفكرة تصنع نظامًا، والنظام يصنع مؤسسات، والمؤسسات تصنع دولة قادرة على النمو والبقاء.




